[حكمته صلى الله عليه وسلم]
وأختم هذا الدرس بهذا الحديث الغالي جداً، والحديث في البخاري ومسلم ومسند أحمد وعند أصحاب السنن وغيرهم، من حديث أبي سيعد وعلي وعبد الله بن عمرو وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنائم يوم حنين أعطى المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، ووكل الأنصار إلى إيمانهم بالعزيز الغفار وحبهم للنبي المختار، وأعطى المال للمؤلفة قلوبهم ليتألفهم، وليحببهم في الإسلام، فوجد الأنصار في أنفسهم، وقالوا كلمات شديدة، منها: (غفر الله لرسول الله، غفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ولا يعطينا ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم؟!).
وقالوا أيضاً: (والله لقد لقي رسول الله قومه) يعني: من لقي أحبابه نسي أصحابه؟! لما رأى النبي قومه من قريش نسينا فأعطاهم ولم يعطنا، فسمع سعد بن عبادة هذه الكلمات وهو سيد الأنصار فأسرع إلى النبي المختار وأخبره بما قال الأنصار، فقال المصطفى: اجمع لي الأنصار يا سعد فإذا اجتمعوا فأعلمني، فانطلق سعد بن عبادة فجمع الأنصار جميعاً، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قد جمعت لك الأنصار حيث أمرتني فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم.
أخي الحبيب! أعرني قلبك وسمعك وانتبه! قام النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار خطيباً، وهو أفصح الخطباء الذي كانت تهتز بين يديه لكلماته أعواد المنابر، فهو أفصح من نطق بالضاد وأصدق الناس لهجة: (قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الأنصار فقال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! عالة -أي: فقراء- فأغناكم الله؟! أعداءً فألف الله بين قلوبكم؟! فقالوا: المن لله ولرسوله، المن لله ولرسوله، فقال المصطفى: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك عائلاً فواسيناك مخذولاً فنصرناك، فقالوا: المن لله ولرسوله، فقال: يا معشر الأنصار! أوجدتم في أنفسكم في لعاعة -أي: في أمر تافه من أمر الدنيا- أتألف به أقوماً ووكلتكم إلى إيمانكم بالله جل وعلا؟! يا معشر الأنصار! والله لولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباًَ لسلكت شعب الأنصار، فاللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فبكى الأنصار جميعاً حتى اخضلت لحاهم، ثم قال: يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! فقال الأنصار جميعاً على قلب ولسان رجل واحد: رضينا بالله ورسوله قسماً ومغنماً).
أيها الأحبة! إنه الخلق، فوالله ثم والله لو ظللت أتحدث طوال الليل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم -على رغم جهلي وقلة بضاعتي- ما مللتم.
أيها الإخوة! ما أحوج الأمة الآن أن تحول خلق النبي صلى الله عليه وسلم في حياتها إلى منهج حياة إلى واقع يتألق سمواً وعظمة وروعة وجلالاً، ما أيسر أن تحتفل الأمة وتحتفي بالمولد تارة وبالهجرة تارة، وبليلة النصف من شعبان تارة إلى آخره من هذه الاحتفالات والأعياد التي كثرت في أمتنا، أسأل الله أن يكثر أعيادها على السنة.
ما أحوج الأمة التي تجيد الكلام والخطابات والاحتفالات والقصائد والأشعار إلى أن تحول خلق النبي المختار إلى واقع عملي ومنهج حياة.
أيها الأحبة! لو ظللنا الدهر كله نتغنى بخلق النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لم نمتثل أمره ولم نجتنب نهيه ولم نقف عند حده، ولم نذب وندافع عن سنته ولم نحمل هم دعوته، فوالله لن نغير من الواقع شيئاً، فما أحوج الأمة في هذا الشهر الذي تحتفل فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحول خلقه إلى واقع عملي ومنهج حياة.
وقبل أن أنهي الحديث أريد أن أشير وأنبه إلى ما حدث في أثناء المحاضرة: أقول: أنا قلت للأخ السائل أثناء المحاضرة: اجلس ولم أجبه لسؤاله، وهذا من السنة، والدليل على ذلك: ما رواه البخاري ومسلم: (أن رجلاً دخل المسجد فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس فقال: يا رسول الله! متى الساعة فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يجب السائل، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: أين السائل؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال السائل -الفقيه-: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فمن السنة أن يقول الخطيب أو المتكلم للسائل: اجلس حتى ينهي حديثه، فإن أراد أن يسأل عن السائل فعل وإلا فلا حرج ولا عيب.
أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.