للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رفعة الحضارة الإسلامية]

أما حضارتنا فنقول بملء الفم وأعلى الصوت: إنها حضارة لا وجه للمقارنة مطلقاً بينها وبين حضارات الأرض؛ لأن حضارات الأرض استمدت أصولها من الأرض، أما حضارة الإسلام فقد استمدت أصولها من السماء، فأصول الحضارة الإسلامية القرآن والسنة.

هذه أصول حضارتنا: (القرآن والسنة) القرآن: كلام الله، والسنة: وحي الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتستمد الحضارة الإسلامية أصولها من هذين الوحيين، ومن هذين النورين المشرقين، أصلت عقيدة التوحيد، فلا ينبغي أن توجه القلوب ولا أن تصرف العبادة إلا لله الواحد الأحد؛ لتلم شمل وشتات الإنسان، فالإنسان المتوجه لإلهين مختلفين مشتت، أما حضارة الإسلام، فهي الحضارة التي أصلت التوحيد الحضارة التي أصلت حقيقة العبودية لله جل وعلا حضارة الإسلام هي الحضارة التي أرست الخلق: خلق الأمن خلق التسامح خلق الوفاء بالوعود والعهود، ولم تكن مبادئ الحضارة الإسلامية كلمات لا تساوي قيمة الحبر التي كتبت به كما هو الحال في ميثاق حقوق الإنسان في هيئة الأمم.

ولم تكن الحضارة الإسلامية تماثلاً يصدم الناظرين في قلب أمريكا ليرمز للحرية وهم يسحقون الأحرار خارج بلادهم وأرضهم.

ولم تكن الحضارة الإسلامية كلمات حبيسة الأدراج كما هو الحال في الثورة الفرنسية التي حبست دستورها، أو حبست ما تحويه هذه الثورة من معانٍ جليلة عن مستعمراتها التي استعمرتها سنوات طويلة، ولكن الحضارة الإسلامية تحولت على أرض الواقع إلى منهج حياة، فهاهو المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أصّل هذه الأصول يعلنها صريحة، ويقول: (أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، إن آدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، وقرأ قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣]).

وهاهي امرأة من أشراف بني مخزوم تسرق، ويشفع بعض الصحابة لها عند رسول الله -والحديث في الصحيحين- فيغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ويعلنها صريحة مدوية: (وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

هذه هي الحضارة الإسلامية التي ما ذاق اليهود ولا النصارى طعم الأمن إلا في ظلالها، فهاهم اليهود يعرفون طعم الأمن سنوات طويلة حينما وفوا بالعهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهاهم النصارى يذوقون طعم الأمن في ظلال الحكم الإسلامي.

جاء عمر بن الخطاب من المدينة إلى بيت المقدس ليحقن دماء النصارى، وهو الخليفة الذي كان قادراً على أن يصدر الأوامر لجيشه المنتصر أن يفتح مدينة بيت المقدس عنوة ولكنه أبى، وأتى من المدينة إلى بيت المقدس ليمشي مسافة تزيد على ألفين وخمسمائة كيلو متراً من المدينة إلى بيت المقدس، لم يركب طائرة خاصة، ولا سيارة مكيفة، بل ولم يأت بموكب رهيب يتكون من آلاف الفرسان وآلاف الرجال والجنود، وإنما جاء في موكب مهيب في تواضعه، جاء يركب دابة واحده مع خادمه فقط، يركب عمر الدابة تارة بمقدار قراءة سورة يس -كما قال المؤرخون- وينزل الفاروق من على ظهر الدابة ليركبها خادمه بمقدار قراءة السورة، ثم يمشي عمر إلى جوار خادمه لتستريح الدابة بمقدار قراءة السورة، ولما وصل إلى مدينة بيت المقدس كانت الكرة في الركوب لخادمه، فأصر الخادم أن يركب أمير المؤمنين وأن يمشي هو فأبى، وأصر الفاروق على أن يركب الخادم -وأنا لا أقول هذا من أجل تضييع الوقت ولا لاستهلاكه، وإنما لأبين لحضراتكم حقيقة القلوب التي فتح الله بها بيت المقدس- ويركب الخادم ويجر الدابة له أمير المؤمنين عمر، ويرى أبو عبيدة قائد الجيش هذا المشهد المهيب، وتعترض الدابة مخاضة ماء -بركة ماء- فيشمر الفاروق عن ساعديه، ويضع نعله تحت أبطيه، ويجر الدابة لخادمه، فيقول أبو عبيدة: مه يا أمير المؤمنين! والله ما أحب أن القوم قد استشرفوك -أي: لا أحب أن يراك القوم وأنت في هذه الحالة- فقال الفاروق الأواب: أوه يا أبا عبيدة! لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! لأوجعته، لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.

هذه هي القلوب التي فتح الله لها بيت المقدس.

ويستلم عمر مفاتيح المدينة المقدسة، ويعطي النصارى عهداً بالأمان لأموالهم ولأنفسهم ولكنائسهم، وألا تسكن كنائسهم وألا تهدم، ومن أراد منهم أن يخرج فله الأمان، ومن أراد أن يبقى في المدينة المقدسة فلا تؤخذ منه الجزية حتى يحصد حصاده.

هذا هو الإسلام وهذه حضارته!! وفي هذه الحضارة الإسلامية يبرز جانباً رائعاً منها أمين سر رسول الله حذيفة بن اليمان، والحديث في صحيح مسلم، يقول حذيفة: ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، فأخذنا المشركون وقالوا: أتريدان محمداً؟ قلنا: لا.

بل نريد المدينة، قال حذيفة: فأخذ علينا المشركون عهد الله وميثاقه ألا نقاتل مع رسول الله، وأن ننطلق مباشرة إلى المدينة، قال: فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قلت أنا وأبي وبما قاله المشركون -اسمع ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصرفا) -أي: لا تشهدا معنا المعركة- (انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، هذه حضارتنا إنها حضارة الإسلام!! وهذا أبو عبيدة يرسل كتاباً إلى عمر ليقول له: يا أمير المؤمنين! لقد أعطى جندي في الجيش عهداً بالأمان لأهل بلد من بلاد العراق، فماذا أصنع؟ اسمع ما قال عمر؟ أسرع وأرسل كتاباً إلى أبي عبيدة ليقول بعد حمد الله والثناء عليه: من عمر إلى أبي عبيدة: سلام الله عليك وبعد، فإن الله قد عظم الوفاء ولا تكونون أوفياء حتى تفوا فوفوا لهم بعهدهم، وانصرفوا عنهم، واستعينوا الله عليهم.

هذه حضارتنا التي تعظم الوفاء بالوعود والعهود!! حضارتنا التي تعظم الدماء!! حضارتنا التي تعظم الأمن والأمان!! حضارتنا التي لا تقر الإرهاب فوق أي أرض وتحت أي سماء، مهما كان لون الإرهاب ووطنه وجنسه!! حضارتنا التي أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن امرأة دخلت النار في هرة، وأن بغياً من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب!! حضارتنا حضارة العدل، تحرم الظلم والبغي والعدوان!! حضارتنا التي جلى عظمتها صلاح الدين يوم فتح بيت المقدس وأرسل طبيبه الخاص إلى عدوه اللدود وقائد الجيش الجسور ريتشارد قلب الأسد!! حضارتنا هي التي جلى محمد الفاتح عظمتها يوم فتح كنيسة (آياصوفيا)، وعلم العالم الصليبي الحاقد درساً من أعظم دروس التسامح والوفاء!! ويكفي أن نعلم أن حضارتنا تستمد أصولها وأخلاقها من كلام ربها وكلام نبيها صلى الله عليه وسلم.

أيها الأخيار! حتى في الجانب المادي، والله الذي لا إله غيره ما قفزت أوروبا هذه القفزة العلمية إلا على أسس حضارتنا الإسلامية العلمية، ففي الوقت الذي أنار المسلمون الأندلس بضوء الكهرباء، كانت فرنسا ما زالت تعيش في الظلام، ولم تصل بعد إلى ضوء المصباح الكهربائي، وفي الوقت الذي رصف وعبد المسلمون طرق الأندلس، كانت إيطاليا وبريطانيا تعيش في الوحل والطين، ولم تعرف بعد الطرق المعبدة.

لكنني أسجل أن المسلمين انتكسوا وتخلوا في الجانب المادي عن حضارتهم، وفي نفس الوقت أخذ الأوروبيون أسس وأصول هذه الحضارة، وطوروها وقفزوا قفزات علمية هائلة، إذ إن الحضارة في أي عصر ما هي إلا نتاج علمي وفكري لآلاف الأدمغة والرءوس التي عملت قبل ذلك.

فمحال أن تقارن بين حضارة القرن العشرين وحضارة القرن الخامس عشر؛ محال لأن حضارة القرن العشرين ما هي إلا محصلة لنتاج عقلي وعلمي وفكري لآلاف الرءوس والأدمغة التي عملت في كل مجالات الحياة، فجاءت هذه الحضارة فجنت الثمار وطورت، وأنا لا أنكر ذلك.