[الديل الثالث: قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)]
الدليل الثالث: قول الله تعالى في سورة النور الآية (٣١)، ويستدل العلماء بثلاث مواضع من هذه الآية الكريمة على وجوب الحجاب: الموضع الأول: قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:٣١].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوز لها -أي: للمرأة- إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم.
وصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:٣١] الثياب.
وإسناده في غاية الصحة، رواه ابن جرير الطبري وابن أبي شيبة والحاكم من طريقه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص.
وأما ما ينسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما من أنه فسر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين؛ فلا يصح إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الأثر المروي عن ابن عباس أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، والإمام البيهقي في (السنن الكبرى) فلنتعرف على صحة هذين الإسنادين من عدمها.
الطريق الأول: قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا مروان قال: حدثنا مسلم الملائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال ابن عباس: الكحل والخاتم.
قال الشيخ عبد القادر السندي: قلت: إسناده ضعيف جداً، بل هو منكر.
قال الإمام الذهبي في ترجمة مسلم الملائي الكوفي: متروك الحديث، وقال عنه يحيى: ليس بثقة.
وقال البخاري: يتكلمون فيه.
وقال النسائي: متروك الحديث.
وقال الشيخ السندي: وهذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد كما لا يخفى على أهل هذا الفن.
الطريق الثاني: ما ورد في السنن الكبرى للإمام البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) ما في الكف والوجه.
قال الشيخ السندي: إسناده مظلم ضعيف لضعف راويين هما: أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال الذهبي: ضعفه غير واحد.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.
وقال مطين: كان يكذب.
وقال ابنه عبد الرحمن: كتبت عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه.
وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.
والراوي الثاني هو عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وضعفه النسائي.
وقال الحافظ في تقريب التهذيب: ضعيف.
قال الشيخ السندي: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد، لا يحتج بهما ولا يكتبان.
أيها الأحباب: ويؤكد صحة ذلك أيضاً ما ذكرناه سابقاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة.
يقول شيخنا ابن باز حفظه الله: وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق، وهو الحق الذي لا ريب فيه.
وقال شيخنا الحبيب محمد بن عثيمين حفظه الله: إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقاً إلا ما ظهر منها، وهي التي لابد أن تظهر كظاهر الثياب؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:٣١]، ولم يقل: إلا ما أظهرن منها، ثم نهى تبارك وتعالى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى، فالزينة الأولى: هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية: هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.
ويقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:٣١]، يقول: توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة قول من قال: هي الوجه والكفان، وهذه القرينة هي أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلل والحلي، فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
ثم استشهد على ذلك بأن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن الكريم مراداً به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها، كقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:٣١]، وكقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:٧٩]، وكقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:٧]، وكقوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:٥٩] وهكذا وأما الموضع الثاني في هذه الآية الكريمة فهو قول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:٣١]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخمر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب: التي تسدل من فوق الرءوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح حديث عائشة: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:٣١]، شققن مروطهن فاختمرن بها.
يقول إمام أهل الحديث الحافظ ابن حجر: فاختمرن بها، أي: غطين وجوههن.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: وهذا الحديث صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن لوجوههن تصديق لكتاب الله وإيمان بتنزيله كما ترى.
ثم يقول: فالعجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة لوجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيماناً بتنزيله، ومعنى هذا ثابت في الصحيح كما تقدم عن البخاري، وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى.
والموضع الثالث في هذه الآية: قول الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:٣١]، يقول الشيخ الجزائري حفظه الله: فإذا حرم الله تعالى بهذه الآية على المرأة أن تضرب الأرض برجلها؛ خشية أن يسمع صوت حليها فيفتن به سامعه، كان تحريم النظر إلى وجهها وهو محط محاسنها أولى وأشد حرمة.