[وقوف خديجة إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم عند بعثته]
ومرت الأعوام تلو الأعوام على أكرم زوجين، ولما اقترب النبي عليه الصلاة والسلام من الأربعين من عمره الشريف بدأت إرهاصات النبوة تلوح في أفق حياته، فكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما في صحيح البخاري.
وحبب إليه في هذه المرحلة الخلاء، فخلا بنفسه واعتزل الناس، فكان يخرج إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وتزوده الزوجة الوفية المخلصة بما يحتاج إليه من طعام وشراب، فما سفهت رأيه، وما احتقرت عمله، فهو الذي كان يترك الدار والأولاد وينطلق بعيداً عن مكة بأصنامها ليتعبد لله جل وعلا في هذه الخلوة في غار حراء.
وكانت خديجة تقطع هذه المسافة على قدميها لتقدم له الطعام والشراب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ومرت الشهور الستة للرؤيا الصادقة، وجاء شهر رمضان، وخلا النبي في غار حراء، وفي ليلة كريمة مباركة خيم على الكون هدوء خاشع، ثناه جبريل عليه السلام يقف أمام الغار، ويضم النبي المختار ضمة شديدة ويقول له: اقرأ.
والرسول يقول: ما أنا بقارئ، قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:١ - ٥]، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات الكريمات يرجف فؤاده، فدخل على خديجة -رمز الوفاء وسكن سيد الأنبياء- وهو يرتعد ويضطرب ويقول: زملوني زملوني! فزملته حتى ذهب عنه الروع).
فسيدتنا خديجة رضي الله عنها ما صرخت في وجهه وما قالت: ما الخبر؟ وإنما هدأت من روعه فلما استيقظ واستراح وذهب عنه الروع، قالت له: ما الخبر؟ فقال لها: (لقد خشيت على نفسي وأخبرها بما كان، فقالت الزوجة الصابرة الوفية الذكية: كلا! والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: تساعد العاجز الضعيف- وتكسب المعدوم -أي: تعطي المحروم- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، وهاهي الزوجة العاقلة التي تذكر زوجها بفضائله ومناقبه إذا وقع في وقت عسرة أو أزمة أو في شدة، فلا تصرخ في وجهه ولا تعنفه ولا توبخه إذا رأته في أزمة أو ضيق.
ولم تكتف خديجة بهذا، بل ذهبت برسول الله إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد فقد بصره، فقالت له خديجة: (يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً صغيراً- ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال المصطفى: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب أن توفي ورقة، وفتر الوحي، أي: انقطع)، والحديث رواه البخاري.
ثم بعد ذلك نزل على رسول الله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:١ - ٤]، وبهذا بعث النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي ميدان السبق الإيماني كانت الطاهرة الفائزة بالدرجة العليا، برتبة صديقة المؤمنات الأولى، لم يتقدمها رجل ولا امرأة كما قال جمهور أهل العلم، ومن يومها قامت بدور جديد في تثبيت وتبشير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤازرته ومعاونته في تبليغ الدعوة إلى الله، والصبر على عناد المشركين، وقدمت لرسول الله مالها وعقلها وفكرها ونفسها ووقتها، بل وجعلت من دارها حصن أمن وهدوء واستقرار، بل ومن دارها سطع نور الإسلام، ومنها أضاء على الدنيا كلها.
وازداد أهل مكة عداء وإيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وتمادت قريش في طغيانها، وقاطعت بني هاشم مقاطعة اقتصادية كاملة مدة ثلاث سنوات، ودخلت الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته الصابرة الطاهرة، التي راحت تبذل مالها كله، ووقفت تشد أزره، وتشاركه في تحمل الأذى بنفس راضية صابرة محتسبة، حتى انتهى هذا الحصار الظالم وقد ازداد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها، وازداد النبي صلى الله عليه وسلم تقديراً لمواقفها.
وهكذا تعلمنا خديجة درساً آخر من دروس الوفاء والصبر -أيتها الأخت المسلمة المؤمنة- فإن وقع الزوج في شدة وضيق فالزوجة الصابرة هي التي تقف إلى جوار زوجها، هي التي ترفع عنه الكرب بكلمة حانية طيبة، ولا تفرط في بيته، وسرعان ما تهرول إلى بيت أبويها حتى يرجع إلى الزوج خيره وماله، ويسترد عافيته! فهذا ليس من الوفاء، بل يجب على الزوجة أن تصبر مع زوجها في السراء والضراء على الخير والشر، لتعاونه وتؤازره إذا مر بضيق أو بأزمة من الأزمات! صبرت خديجة رضي الله عنها راضية مطمئنة، وخرجت من هذا الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد ازداد النبي صلى الله عليه وسلم حباً لها وتعلقاً بها.