[ذكر كلام أهل العلم في تفسير الآية]
يقول الإمام القرطبي في: (الجامع لأحكام القرآن الكريم): ومما يؤيد عموم آية الحجاب وأنها ليست خاصة بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن قوله تعالى بعدها: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ} [الأحزاب:٥٥] إلى آخر الآية.
ويقول العلامة القرآني الأمين الشنقيطي رحمه الله: وفي هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاص بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:٥٣] هو علة قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:٥٣]، وهو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه.
وقال مفتي مصر سابقاً الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله في تفسيره (صفوة البيان لمعاني القرآن): وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه صلى الله عليه وسلم.
ويقول صاحب كتاب (فقه النظر في الإسلام): فإن قال قائل: إن هذه الآية خاصة بأمهات المؤمنين وقد نزلت بحقهن، قلت: إنها وإن كانت خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب فهي عامة من جهة الأحكام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثم يقول: فادعاء أنها خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم لا ينهض حجة؛ لأن الاستثناء في آية: (لا جناح عليهن في آبائهن) إلى آخره عام وهو فرع من الأصل وهو الحجاب، فدعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع وهو غير مسلم.
ويقول صاحب كتاب (كشف النقاب): وإذا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم المطهرات من السفاح، المحرمات علينا بالنكاح، الموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين قد أمرن بالحجاب طهارة لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحهن، فماذا نقول في غيرهن، المحللات لنا بالنكاح، المتطلع لهن أهل السفاح، هل يجوز لهن أن يكن سافرات غير منتقبات، وبارزات غير محجبات؟! ويقول صاحب كتاب (فقه النظر) في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:٣٢ - ٣٣].
يقول: إنها وصايا ربانية، وأوامر إلهية، فأي منها لا يتصل بعامة النساء المسلمات؟! وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين الله أو قد أبيح لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية؟ ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة ويمنعن الزكاة ويعرضن عن طاعة الله ورسوله؟ وهل يريد الله أن يتركهن في الرجس؟ فإذا كانت هذه الأوامر والإرشادات عامة لجميع المسلمات، فما المبرر بتخصيص ما ورد في سياق مخاطبة أمهات المؤمنين من قرار في البيوت وملازمة للحجاب وعدم مخالطة الأجانب بهن خاصة؟ نعم.
ما هو الدليل على أن هذه التكليفات والأوامر خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن؟ وهكذا أيها الأحباب! وأيتها الفضليات! فدليل الأولوية واضح وضوح الشمس في هذه الآيات الكريمات، وهو أن أمهات المؤمنين كن أطهر نساء الدنيا قلوباً، وأعظمهن قدراً في قلوب المؤمنين، ومع ذلك أمرن بالحجاب طلباً لتزكية قلوب الطرفين، فغيرهن من النساء أولى بهذا الأمر والتكليف.
وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله: لم يرد في آية النور وآية الأحزاب أي تخصيص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بما قضت به من الأحكام، فهي أحكام عامة للمسلمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وإن من الزعم الباطل أن يقال: إن آية الحجاب خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى آخر ما ذكره في كتابه: (نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة) في صفحة (٩٩ - ٩٣) حفظه الله.
ويقول شيخنا أبو بكر الجزائري حفظه الله في كتابه (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) صفحة (٣٤ - ٣٥): ومن عجيب القول: أن يقال: إن هذه الآية نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهي خاصة بهن دون باقي نساء المؤمنين، إذ لو كان الأمر كما قيل لما حجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، ولما كان لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاطب أن ينظر لمن يخطبها معنى أبداً.
اهـ وهذا واضح وضوح الشمس في ضحاها، ولولا أنني أخشى الإطالة لتعاملت مع هذا الدليل بإطالة، وذكرت أقوال أهل العلم مفصلة كما تعاملنا مع الدليل الأول في آية الإدناء.