للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مبادئ الإسلام وتطبيقها على الواقع]

والسؤال الآن: هل ظلت مبادئ الإسلام السامية حبيسة الأدراج كما ظلت مواثيق الأمم المتحدة حبيسة الأدراج لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به؟ ثم هل حبست المدينة المنورة -تلك المدينة التي أعلنت لأول مرة مبادئ الإسلام السامقة- هذه الأسس السامية، وهذه القوانين، وهذه الأخلاق كما حبست فرنسا بعد الثورة الفرنسية مبادئ الثورة في الحرية والديمقراطية حتى عن دولها ومستعمراتها التي ترضخ تحت حكمها؟! ثم هل نصبت حضارة الإسلام لهذه المبادئ السامية تمثالاً كتمثال الحرية المكذوب في قلب ميدان واشنطن في قلب نيويورك ذلكم التمثال الكاذب الذي يسحق أهله من الأمريكان الحرية وأهلها خارج حدود أمريكا سحقاً؟! هل حذف الإسلام تلك المبادئ السامية؟!

الجواب

اقرءوا التاريخ، فهذا رائد الحضارة وإمام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: (أن امرأة من بني مخزوم من الأشراف سرقت واهتمت قريش بهذا الأمر، وقالوا: من يشفع لها عند رسول الله، وانطلق حب النبي أسامة بن زيد ليشفع للمخزومية عند المصطفى، فغضب غضباً شديداً وهو يقول لـ أسامة: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ ثم ارتقى المنبر، وقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) تلك حضارة الإسلام.

وهذا عمر فاروق الأمة رضوان الله عليه لما نزل من المدينة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس أعطى لأهل إيليا من النصارى الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وأمر أن لا تهدم كنائسهم! وهذا عمر بن عبد العزيز لما فتح الإسلام مدينة سمرقند وأرسل أهل سمرقند لأمير المؤمنين عمر رسالة يقولون فيها: بأن الفتح الإسلامي للمدينة فتح باطل؛ لأن الجيش لم يدعونا للإسلام، ولم يفرض علينا الجزية إن امتنعنا، ولم يخبرنا بالمنابذة، فلما عرض عمر بن عبد العزيز الأمر على قاض المسلمين أقر القاضي ببطلان الفتح الإسلامي لسمرقند، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أصدر الأوامر لقائد جيوشه في بلاد سمرقند بالانسحاب فوراً، فخرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي الجيش الفاتح -المنتصر على نفسه ابتداء- ليعلنوا جمعياً القولة الخالدة: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله.

ولما فتح المسلمون الشام، واستولوا على حمص ودمشق، وفرضوا الجزية على أهل حمص وعلى أهل دمشق، سمع القادة المسلمون بقيادة أبي عبيدة بن الجراح أن هرقل قد جمع جيشاً جراراً لينقض على الجيش الإسلامي انقضاضاً ساحقاً، فما كان من قادة المسلمين إلا أن ذهبوا إلى أهل دمشق وحمص ليخبروهم بأنهم لن يستطيعوا أن يدفعوا عنهم في مقابل الجزية، فردوا الجزية كلها إلى أهل حمص ودمشق، فخرجوا جميعاً -مع أنهم كانوا يدينون لدين النصارى من الروم- يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لعدلكم أيها المسلمون أحق إلينا من جور الروم وظلمهم، وإن كنا على مثل دينهم.

وأظن أنكم جميعاً تعلمون قصة اليهودي الذي سرق درع علي بن أبي طالب، فيقف إلى جوار أمير المؤمنين علي أمام قاض مسلم، فيقول القاضي لـ علي وهو أمير المؤمنين: ما القضية؟ فيقول علي: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فيلتفت القاضي إلى اليهودي ويقول: ما جوابك؟ فيقول: الدرع درعي وهو معي، فيقول القاضي: هل معك من بينة يا أمير المؤمنين؟ فيقول: لا، فيقضي القاضي بالدرع لليهودي، فـ (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، وينطلق اليهودي بالدرع وهو يكلم نفسه: أقف إلى جوار أمير المؤمنين في ساحة القضاء، ويقضي القاضي المسلم بالدرع لي، وأنا أعلم يقيناً أن الدرع لـ علي والله إنها لأخلاق أنبياء، فيرجع اليهودي إلى القاضي ليقول له: أيها القاضي! أما الدرع فهو لـ علي، وأما أنا فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما سمعها علي رضوان الله عليه قال: أما وقد أسلمت فالدرع هدية مني لك.

وأظن أنكم جميعاً تحفظون قصة شاب مصر ذلكم الشاب القبطي الذي سابق محمد بن عمرو بن العاص الذي كان أبوه حاكماً لمصر ووالياً عليها، فسبق القبطي ابن حاكم مصر فضربه محمد بن عمرو بالسوط ضرباً شديداً وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين! خذها وأنا ابن الأكرمين! خذها وأنا ابن الأكرمين! فانطلق هذا القبطي إلى الأسد القابع في عرينه في مدينة المصطفى، ذلكم الرجل الذي يحب العدل، ويكره الظلم بكل كيانه، إنه عمر! ويدخل القبطي على عمر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أمير المؤمنين! هذا مقام العائذ بك فيقول عمر: ما القضية ومن أنت؟ فيقول: أنا قبطي من أهل مصر -ركب من مصر إلى المدينة على ظهر دابة يقطع الفيافي والقفار- فيقول عمر: ما القضية؟ فيقول القبطي: سابقت محمد بن عمرو فسبقته فضربني بالسوط ضرباً شديداً وهو يقول لي: خذها وأنا ابن الأكرمين! فقال له عمر: اجلس هنا، وأمر الصحابة أن يكرموا هذا القبطي، وكتب عمر كتاباً إلى والي مصر -وتدبر كلام عمر أسالك بالله- بعد ما حمد الله وأثنى عليه قال: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى والي مصر، سلام الله عليك وبعد: فإن انتهيت من قراءة كتابي هذا فاركب إلي مع ولدك محمد فدخل عمرو بن العاص وفي خلفه ولده محمد على أمير المؤمنين عمر، فقال فاروق الأمة: أين قبطي مصر؟ فقال: هأنذا يا أمير المؤمنين! قال: خذ السوط واضرب محمد بن عمرو، فضربه على رأسه، فقال له: اجعلها على صلعة عمرو، فقال: لا يا أمير المؤمنين لقد ضربت من ضربني، قال: والله لو فعلت ذلك ما حلنا بينك وبين ذلك، فما تجرأ عليك ولده إلا بسلطان أبيه، ثم قال عمر قولته الخالدة التي ترن في أذن الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال عمر: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! وهذا صلاح الدين يوم أن حطم الصليبيين في موقعة حطين، وسمع أن رتشارد قلب الأسد ذلكم القائد المراوغ الخبيث قد مرض، فما كان من صلاح الدين إلا أن أرسل إليه بطبيبه الخاص وبدواء من عنده.

ومحمد الفاتح ذلكم السلطان الشاب المبارك لما فتح القسطنطينية تحقيقاً للنبوءة النبوية، وأعطى الأمان لآل كنيسة (آيا صوفيا) الشهيرة، أعطاهم الأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم وكنيستهم، ولم يصبهم بأي أذى أو بأي سوء.

إنها سماحة الإسلام! تلك أخلاقنا! وهذا ديننا وكم تمنيت ورب الكعبة أن لو أسمعت العالم كله بزعمائه أن الإسلام دين لا يقر الإرهاب أبداً مهما كان لونه! ومهما كان جنسه! ومهما كان وطنه، بل هو دين الأمن والأمان دين السماحة والرخاء والاستقرار، ولكن بكل أسف شوهت الصورة المشرقة للإسلام، وركزت المجاهر المكبرة على بعض الأخطاء الفردية من المسلمين هنا وهنالك، حتى وصم الإسلام كله والمسلمون جميعاً بالأصولية والتطرف والإرهاب!