لقد توقفنا في اللقاء الماضي عند قول الحق جل وعلا {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}[مريم:٢١] هذه العذراء التي تربت على الطهر والعبادة والعفاف احتجبت يوماً من أيام حياتها عن قومها لقضاء حاجةً من حوائجها الخاصة جداً، وفجأة في هذه الخلوة، ووراء هذا الحجاب، وجدت أمام عينيها وبين يديها بشراً سوياً كاملاً مكتملاً، فقالت:{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً}[مريم:١٨] أي: إن كنت تتقي الله جل وعلا، وإن كنت ممن يخافون الله جل وعلا، فطمأنها هذا البشر السوي قائلاً:{إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}[مريم:١٩] فسألت العذراء في تعجبٍ ودهشةً واستغراب.
قالت:{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}[مريم:٢٠] ليس لي زوج، ولم أكون زانية في يومٍ ما {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}[مريم:٢٠] فطمأنها الملك ثانيةً وهو جبريل عليه السلام قائلاً: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}[مريم:٢١].
وهنا اطمأنت مريم لهذا الكلام، واطمأنت واستسلمت لقضاء الله وقدره {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}[مريم:٢١] قدرة الله لا تحدها حدود {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً}[مريم:٢١] ولنجعل هذا المولود آية، أي: علامة؛ علامة على ماذا؟ علامة على قدرتنا وعلى كمال جلالنا وعظمتنا {وَرَحْمَةً مِنَّا}[مريم:٢١] رحمةً منا لمن شهد لي بالوحدانية وله بالرسالة والنبوة {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}[مريم:٢١] إذا قدر الله وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}[مريم:٢١].