[لا سلطان للشياطين على أهل التوحيد والإخلاص]
أيها الأحبة الكرام: جدير بهؤلاء الذين اتخذوا آلهةً من دون الله جل وعلا يطلب عندها العزة والرفعة والنصرة والغلبة والتأييد والتمكين، جديرٌ بهؤلاء أن يكونوا أولياءً وإخواناً للشياطين، وأن يكونوا أتباعاً وأولياءً للشياطين، وذلك هو ما أخبرنا به رب العالمين في الآيات التي نحن بصدد تفسيرها في هذا اللقاء المبارك، فيخبرنا ربنا جل وعلا عن هؤلاء ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٣ - ٨٤].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في وقتنا حتى أنتهي من شرح هاتين الآيتين الموجزتين: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٣ - ٨٤] والخطاب هنا لحبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول له ربنا: يا محمد! {َألَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:٨٣] أي: تغريهم الشياطين إغراءً، وتزعجهم إزعاجاً، وتغويهم إغواءً إلى المعاصي والشهوات والشبهات.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:٨٣] والأز في اللغة: هو التحريك والتهييج، ولذا يقال لغليان الماء في القدر: أزيز، كما ورد في الحديث الذي أخرجه النسائي والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) فالأز: هو التحريك والتهييج؛ لأن الماء يتحرك في القدر عند الغليان، أي: إن الشياطين تأز أهل الشرك والضلال على المعاصي أزاً، وتهيجهم إلى المعاصي تهييجاً، وتحركهم إلى المعاصي تحريكاً، كما تحرك النار الماء في القدر أثناء غليانه وفورانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٣ - ٨٤].
هكذا -أيها الأحباب- لا سلطان للشياطين إلا على هؤلاء الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى؛ لأنه لا سلطان للشياطين على أهل التوحيد والإخلاص، ليس معنى ذلك: أن الشياطين لا يغوون أهل الإيمان ولا يوسوسون لأهل التوحيد والإخلاص، لا.
ليس هذا هو المقصود، وإنما سلطان الإغواء والإغراء والإضلال للشيطان على أوليائه وأتباعه وأحبابه وأشياعه كما أخبر بذلك ربنا جل وعلا فقال الله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:٩٨ - ١٠٠] أي: وهم بالله جل وعلا مشركون، فليس معنى ما قلت: إنه لا سلطان أو أن الشيطان لا يوسوس لأهل الإيمان والتوحيد، كلا، بل إن الشيطان في صراع معكم يا أهل التوحيد والإيمان! وأهل التوحيد في صراع مع الشيطان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهو الذي توعد أهل الإيمان عليه لعنة الله فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:١٦ - ١٧] إنه وعيد من الشيطان لنا: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:١٦].
إن الشيطان لا يقعد على طريق الخمارات والبارات؛ لأن هؤلاء الذين يذهبون إلى هناك إنما هم أتباعه وأشياعه وجنده، إن الشيطان لا يقعد إلا على طريق الحق والإيمان والمساجد والإسلام والإيمان: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:١٦] لا يترك الشيطان طريقاً ولا سبيلاً يقرب العبد من مولاه إلا وقعد هناك كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث صبرة بن أبي الفاكه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها -أي: إن الشيطان قعد لابن آدم في جميع السبل والطرق- قعد الشيطان له على طريق الإسلام، فقال له: أتسلم وتذر دين آبائك وأجدادك؟ فعصاه ابن آدم فأسلم، فقعد له على طريق الهجرة فقال له: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟! فعصاه ابن آدم فهاجر، فقعد له على طريق الجهاد فقال له: أتجاهد في سبيل الله بنفسك ومالك فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟! فعصاه ابن آدم فجاهد، فقال صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) فمن عصى الشيطان فأسلم فهاجر فجاهد ثم ختم الله له بالشهادة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة.
هكذا -أيها الأحباب- ما ترك الشيطان طريقاً أو سبيلاً إلا وقعد عليه لابن آدم ليصده عن سبيل الله وليبعده عن طاعة الله جل وعلا، وكما يقول أستاذنا الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: إن الإنسان لا يسلك من السبل إلا أربع اتجاهات: إما أن يمشي الإنسان عن يمينه، وإما أن يمشي عن شماله، وإما أن يمشي الإنسان بين يديه، أو من خلفه -عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن بين الأيدي ومن الخلف، هذه اتجاهات أربع لا يمشي الإنسان إلا فيها- يقول الإمام: هذه هي السبل التي يسلكها الإنسان، فإن سلك الإنسان سبيلاً من هذه السبل وكانت نيته طاعة الله جل وعلا وجد الشيطان هناك بالمرصاد ليصده عن طاعة الله تبارك وتعالى ليقطع الشيطان عليه الطريق، أما إن سلكها لمعصية الله جل وعلا وجد الشيطان هناك خادماًَ له وحاملاً ومعيناً له على معصية الله تبارك وتعالى، ثم قال الإمام ابن القيم: حتى لو نزل الإنسان إلى أسفل لوجد الشيطان هناك معيناً له على معصية الله وحائلاً بينه وبين طاعة الله جل وعلا، ما ترك الشيطان طريقاً ولا اتجاهاً إلا وهو لأهل الإيمان بالمرصاد، يصدهم عن طاعة الله جل وعلا ويغريهم بمعصية الله تبارك وتعالى.
أو كما قال سيدنا قتادة عليه رحمة الله قال: يا ابن آدم! ما ترك الشيطان اتجاهاً إلا وقف لك فيه بالمرصاد، إلا اتجاهاً واحداً لم يستطع الشيطان أن يأتيك من خلال هذا الاتجاه، أتدرون ما هو؟ لم يترك الشيطان للإنسان طريقا ولا اتجاهاً إلا وأتى الإنسان منه إلا من فوقه، فإنه لم يستطع أن يحول بينه وبين رحمة الله عز وجل، جاءك الشيطان عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك، حتى لو نزلت وادياً أو هبطت مكاناً جاءك الشيطان هناك، إلا من فوقك لم يستطع الشيطان أن يأتيك؛ لأنه لم يفلح أن يحول بينك وبين رحمة الله عز وجل.
هكذا -أيها الأحباب- لم يترك الشيطان سبيلاً ولا طريقاً إلا وقعد فيه لأهل الإيمان والتوحيد، ولكن أهل الإيمان متمسكون ومتحصنون بحصن التوحيد، ومتمسكون بسنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، فعصمهم الله من شره ونجاهم الله من كيده وحفظهم الله من إغوائه ووساوسه وإغرائه.
وجاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلةً وكانت ليلتها، فدبت الغيرة في صدر عائشة، فعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ليسألها عن سبب غيرتها، فقالت له: ومالي لا يغار مثلي على مثلك يا رسول الله؟! فقال لها صلى الله عليه وسلم: أوَقد جاءك شيطانك يا عائشة؟ فقالت: أوَ معي شيطان يا رسول الله؟ قال لها: نعم، ومع كل إنسان شيطان، فقالت: حتى معك يا رسول الله؟ قال: حتى معي يا عائشة! إلا أن ربي عز وجل أعانني عليه فأسلم) وفي رواية للإمام مسلم أيضاً: (إلا أن ربي عز وجل أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)، أما الرواية التي رواها البخاري ومسلم من حديث صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيت إلى المسجد لأزور رسول الله ليلاً، فحدثت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قمت لأذهب إلى داري قالت: فقام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقلبني -أي: ليوصلني إلى الدار- فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله أسرعا فنادى عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: على رسلكما -انتظرا- إنها صفية زوجي فقالا: سبحان الله يا رسول الله!! -أي: هل سنشك فيك يا رسول الله! - فقال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فخشيت أن يقذف في قلبيكما شراً).
ومن أجمل التعليقات على هذا الحديث ما علق به الإمام الشافعي عليه رحمة الله حيث قال: ما قال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك خوفاً على نفسه، كلا والله، ولكن الرسول ما قال لهم ذلك إلا من خوف الرسول عليهما؛ لأنه لو تسرب الشك إلى قلبيها لكفرا بالله عز وجل، من أجل ذلك نادى عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (على رسلكما إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق فخشيت أن يقذف في قلبيكما شيئاً).
هكذا مع كل إنسان شيطان ويجري منك مجرى الدم؛ إذاً لا بد أن ننتبه إلى هذا العدو اللدود الذي حذرنا الله جل وعلا منه وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتبهوا معي إلى هذا العنصر الثاني من عناصر موضوعنا وهو من أخطر عناصر الموضوع، فإن للشيطان مدا