(لا تحزن إن الله معنا) قد يقول قائل: هداك الله أيها الشيخ! أنسيت أنك تتحدث عن صفوة الخلق من الأنبياء والرسل، وهؤلاء هم أولى الناس بتحقيق اليقين؟! تعال معي لندخل بستاناً من أحلى بساتين اليقين في دنيا البشر العاديين، بعيداً عن دنيا الأنبياء والمرسلين، نعم.
لقد رأينا في دنيا الناس يقيناً لا يخضع ولا يخنع ولا يتزعزع ولا يتضعضع، رأينا يقيناً قد حول أصحابه ونقلهم من حمأة الطين إلى أعلى عليين، رأينا يقيناً قد رفع أصحابه إلى أفق وضيء فوق كل خيال، إنه يقين سحرة فرعون! لقد حشر الناس جميعاً في يوم مضح مشرق، حشر الناس ضحى بالأوامر العالية من فرعون، وأقبل موسى وأخوه هارون في خوف ظاهر حينما جلس فرعون في أبهته، ونزل السحرة إلى ميدان النزال بعز واستعلاء، وأعلنوها:{بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}[الشعراء:٤٤]، وتسرب الخوف إلى قلب موسى، وجاء الأمر من الله العلي الأعلى:{قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى}[طه:٦٨].
ويلقي السحرة عصيهم وحبالهم وهم يعلمون السحر، فخيل إلى الناس من سحرهم أنها تسعى، وهي في الحقيقة لا تسعى، فلما ألقى موسى عصاه وتحولت بالفعل إلى ثعبان ضخم، وابتلع كل هذه العصي والحبال خر سحرة فرعون سجداً للكبير المتعال! فلما رأى فرعون هذا المشهد الذي يهز الجبال قال قولته الخبيثة الغبية:{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}[طه:٧١]، وكأنه كان من الواجب عليهم أن يقتلعوا نبتة اليقين وهي تترعرع في قلوبهم! {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ}[طه:٧١]، وكان جوابهم كما قص الله قصتهم:{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[طه:٧٢]، فانظر إلى هذا اليقين! إن حال القلب قبل أن تشرق عليه أنوار اليقين كالحجرة المظلمة الدامسة، فإذا دخلت هذه الحجرة وتحسست في الظلام الدامس مفتاح النور، وضغطت عليه بأصبع من أصابعك ضغطة رقيقة خفيفة حول نور المصباح الظلام الدامس إلى نور مشرق، كذلك حال القلب إذا لامسته أنوار الهداية من الله جل جلاله، تحول أنوار الهداية واليقين ظلام القلب إلى نور مشرق.