[استغاثة أهل النار بأهل الجنة]
ومن موجبات الحسرة يوم القيامة أنه تنخلع القلوب حينما يرون جهنم على حقيقتها وعلى طبيعتها لأول مرة وهم في أرض المحشر، يأمر الله جل وعلا أن يؤتى بجهنم، فيؤتى بها لها سبعون ألف زمام! مع كل زمام سبعون ألف ملك، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود؛ {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:٢٣ - ٢٤].
يا ليتني حافظت على الصلوات، يا ليتني وحدتُ ربَّ الأرض والسماوات، يا ليتني عبدت الله جل وعلا، يا ليتني صمت النهار، يا ليتني قمت الليل، يا ليتني ما عصيت الله، يا ليتني ما انشغلت بالشهوات، يا ليتني ما انشغلت بالشبهات، يا ليتني يا ليتني يوم لا ينفع الندم، إنه يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع التحسر، ولا ينفع الندم.
(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يرون جهنم فيتحسرون ويتألمون وتنخلع القلوب لهول ما رأوا، يرون جهنم يؤتى بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأوها لا يبقى ملك ولا يبقى نبي ولا يبقى صِدِّيق إلا خَرَّ على ركبتيه في أرض المحشر؛ لهول ما رأى! {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:٢٨] فإذا رأوا هذا الهول وهذا المنظر الذي يخلع القلوب والأفئدة، اضطربت الجوارح والأفئدة وفزع الجميع، فإذا انتهى الحساب واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يبدأ هذا الحوار بين أهل الجنة وأهل النار.
وربما سأل سائل، وقال: كيف يسمع أهل الجنة أهل النار، وكيف يسمع أهل النار أهل الجنة؟! نقول: ألم نقل لكم في اللقاء الماضي: إن الله جل وعلا سيبدل كل شيء، وسيحول كل شيء؛ حتى سمع الإنسان يتغير فيسمع أي شيء، ويرى أي شيء: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:٣٨]، تغير كل شيء فبصرك اليوم حديد.
يبدأ أهل الجنة بهذا الحوار: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:٤٤] ينادي أهل الجنة على أهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:٤٤]، جواب قاطع مختصر.
{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤٤].
ويستمر الحوار بين أهل الجنة وأهل النار، وبعد بضع آيات في سورة الأعراف ينتهي هذا الحوار بتلهف واستغاثة واستجداء من أهل النار لأهل الجنة: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:٥٠] هذه هي الاستغاثة استجداء طلب رجاء يا أهل الجنة يا أهل الجنة! أفيضوا علينا شيئاً من الماء، نريد قليلاً من الماء اشتد بنا العطش في هذه النيران المتأججة! (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، فيأتي الجواب الذي يزيد تحسرهم الذي يزيد تألمهم الذي يزيد فيهم الهم والغم، فيقولون لهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:٥٠]، أي: لقد حرم الله على الكافرين هذا في هذا اليوم، ألم ينزل عليكم القرآن؟! ألم يرسل إليكم الرسل؟! ألم يذكروكم بهذا اليوم؟! ولكنكم تعاليتم على الله جل وعلا، واستكبرتم على رسل الله، واستهزأتم بالعلماء، وأبيتم إلا أن تعاندوا الله جل وعلا، وأن تعاندوا شرع الله عز وجل، فقلتم: لا ربا، وقلتم: لا خمر، بل إن الربا هو الفوائد، وإن الخمر هي المشروبات الروحية، وإذا ما أمركم الله جل وعلا استهزأتم بأوامر الله، وإذا ما نهاكم رسول الله سخرتم بنهي رسول الله، وإذا ما ذكركم العلماء قلتم: هؤلاء هم المتنطعون المتطرفون.
أبيتم إلا أن تعرضوا عن منهج الله جل وعلا، و {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠]؟! كذلك لا جزاء لهذا الكفر ولهذا العناد والإعراض إلا ما ترون: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:٤٤]، هل وجدتم ما كنتم تكفرون به، وما كنتم تكذبون به، وما كنتم تعارضونه؟ هل وجدتموه اليوم على حقيقته؟! قالوا: نعم فتزداد الحسرة ويزداد التألم.