للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اعتزاز الجاهلي بوفاء الوعد]

أحبتي في الله! إن صدق الوعد خصلة كريمة من خصال الإيمان، وخلق عظيم من أخلاق الإسلام، بل وشيمة كريمة من شيم الرجال حتى في الجاهلية قبل الإسلام، كان العرب قديماً في الجاهلية يعتزون بصدق الوعد، وينقمون نقمة شديدة على من يخلفه، ومن أجمل ما قرأت في هذا: أن النعمان بن المنذر -وكان ملكاً على الحيرة قبل الإسلام- كان له يومان: يوم بؤس ويوم نعيم، فإذا لقيه أحد في يوم بؤسه قتله وأرداه، وإذا لقيه أحد في يوم نعيمه قربه وأعطاه وحباه.

وفي يوم من أيام بؤسه لقيه رجل من قبيلة طيء، فعلم الطائي أنه مقتول لا محالة بعد ما علم أن هذا اليوم للنعمان بن المنذر هو يوم بؤسه، فاقترب الطائي من النعمان بن المنذر وقال: حيا الله الملك، حيا الله الملك، لقد خرجت وتركت أولادي على شفا تلف من الجوع، وقد خرجت اليوم مبكراً أبحث لهم عن رزق، ففتح الله عليَّ بصيد هذا الأرنب، فإن رأى الملك أن يأذن لي في إتيانهم والرجوع إليهم لأطعمهم ولأوصي بهم، وله عليَّ وعد وعهد أن أرجع إليه مرة أخرى في الموعد الذي يحدده حتى أضع يدي في يده، فرق له النعمان بن المنذر وقال له: لن أسمح لك بالرجوع إليهم إلا إذا ضمنك رجل منا، فضمنه رجل ممن مع الملك وهذا الرجل يقال له: شريك بن عمرو بن شراحيل، ضمن شريك هذا الرجل الطائي، وقال له: أنا أضمنه، قال: إن لم يرجع قتلناك مكانه، قال: افعل.

فانصرف هذا الرجل الطائي فأطعم أولاده وأوصى بهم، وفي الوقت المحدد عاد فوقف بين يدي النعمان بن المنذر، فوقف النعمان منبهراً بهذا الخلق، ومبجلاً لهذا الصدق، ومكبراً لهذه الأخلاق، فنظر النعمان إلى هذا الرجل الطائي، وقال: أيها الرجل! لقد صدقت في وعدك حتى لم تترك للصدق بعد ذلك سبيلاً، ونظر النعمان إلى شريك بن عمرو الذي جاد بحياته ضامناً لهذا الرجل وقال: أما أنت يا شريك بن عمرو فقد جدت وأكرمت حتى لم تدع للجود سبيلا، ثم قال النعمان: والله لا أكون ألأم الثلاثة، فكافأ الطائي وأطلقه، ورفع يوم بؤسه، فأنشد الرجل الطائي بين يديه قائلاً:

ولقد دعتني للخلاف عشيرتي

أي: دعتني قبيلتي وعشيرتي لأن أخلف وعدك أيها الملك.

ولقد دعتني للخلاف عشيرتي فأبيت عند تجهم الأقوال

إني امرؤ مني الوفاء سجية وفعال كل مهذب مفضال

أيها الأحبة في الله! هذه شيم الرجال، وأخلاق الرجال، حتى في الجاهلية قبل الإسلام، فما ظنكم بدين ركنه وعماده هو الأخلاق، ما جاء الإسلام إلا ليعلي وليشيد بنيان الأخلاق، قال كارل ماركس زعيم الشيوعية والوجودية الملحدة: إن الأخلاق كنز لا معنى له، ويرد عليه سيد الأخلاق الذي جاء ليعلم الدنيا الأخلاق محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

ما ظنكم بدين عماده وبنيانه هو الخلق الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليشيد بنيانه وليضع لبناته لبنة فوق لبنة، ولبنة بعد لبنة.