للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السبب الأول: استقالة الوالدين وغياب القدوة]

أيها الآباء أيتها الأخوات أيها الإخوة! ماذا تقولون لو قلت لكم الآن: إن والداً قد قدم استقالة مكتوبة لزوجته أنه قد استقال من تربية الأبناء؟ ستضحكون بملء أفواهكم، وتقولون: إنه زوج أو أب مجنون.

ماذا تقولون لو قلت لكم: إن أماً قد قدمت استقالة مكتوبة أو شفوية لزوجها في البيت، لتخبره فيها بأنها قد استقالت من تربية الأبناء؟ ستتهم بالجنون.

ولكن لو نظرتم نظرة فاحصة مدققة لواقعٍ مريرٍ أليمٍ تعيشه بيوت المسلمين، لرأيتم استقالةً لا أقول: فردية، بل جماعية من كثير من الآباء والأمهات، استقال الأب عن أغلى وظيفة له، واستقالت الأم عن التربية، الطفل ينزل كصفحة بيضاء، وأول الخطوط التي تخط على هذه الصفحة، تخط في داخل الأسرة والبيت، أين الوالد؟ أين الأم؟ أين الأب الذي استقال منذ زمن؟ أين الأم التي استقالت منذ زمن؟ وظن الأب المسكين أن وظيفته أن يكون ممثلاً لوزارة المالية، وأن ينفق على الأولاد، وأن يُوفر المأكل والمشرب والمسكن فقط، هذه وظيفته، لقد صرح والد من هؤلاء المساكين، وقال: أنا لم أر ولدي منذ سنة، قلنا: ربما كان الوالد مسافراً، قال: لا لم أكن مسافراً، ولم ير ولده منذ سنة، وقالت أم: أنا لم أدخل غرفة ولدي، ولم أر هذه المناظر إلا الآن.

أين الأب؟ أين الأم؟ انشغل الأب بالتجارة والوظيفة والأموال، والسفر والحل والترحال.

قد أقول لكم الآن: بأنني أعذر كثيراً من الآباء؛ لأن الظروف الاقتصادية تطحن الناس طحناً، فقد لا يجد الوالد رمقاً من الوقت ليوفر لأولاده الحياة الطيبة الكريمة، هذا صنف، لكنني أتكلم عن صنف آخر، حتى لو تبقى له رمق من الوقت في آخر النهار، يرجع ليقتل هذا الرمق قتلاً بالمكث أمام الشيطان الذي جثم على صدورنا في البيوت، أمام التلفاز، يجلس ليقضي ما تبقى من الوقت أمام فلم داعر، أو مسلسل هابط، أو برنامج: العالم يغني، وهاهم الأولاد رقصوا وغنوا.

أين الأب؟ يا إخوة! إن جلوس الأب بين أبنائه ولو كان صامتاً فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالك لو تكلم، لو ذكر أبناءه بالجنة وحذرهم من النار، لو حل مشكلة، ولو أجاب على تساؤل، ولو أزاح هماً، ولو خطط لأبنائه داخل البيت وخارجه، ماذا ستكون النتيجة؟ وتزداد الكارثة -يا إخوة! - إذا انضمت إلى استقالة الأب استقالة الأم، فانشغلت الأم المسكينة بالمسلسلات والمباريات والأفلام، والضرب في الأسواق، واللهث وراء أحدث المجلات والموضات والمضلات، انشغلت الأم وتركت الأبناء، فانطلق الأبناء وهم يشعرون باليتم التربوي، ليقتاتوا من أين؟ من الشوارع، ومن وسائل الإعلام التي تبث الرذيلة بثاً.

ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً

فقد يكون الوالد صالحاً، وقد تكون الأم صالحة، ويخرج الولد على غير الطريق، وهذا الاستثناء لا ينقض أصل القاعدة، فهأنذا أتذكر الآن بيتاً هو أطهر بيت في زمانه، الوالد الذي يقوم فيه على التربية إنه نبي من أنبياء الله، ومع ذلك خرج ابن هذا النبي كافراً مشركاً بالله جل وعلا: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:٤٣].

وفي المقابل أرى بيتاً هو أخبث بيتٍ على ظهر الأرض في زمانه، بل وفي كل زمان، إنه بيت فرعون، يقوم على أمر التربية فيه طاغوت، يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:٢٤] ومع ذلك خرج من هذا البيت نبي الله موسى، الذي قال الله جل وعلا له: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:٤١] لكن غالب فساد الأبناء يرجع إلى إهمال الأمهات والآباء.

أيها الإخوة! أيها الآباء الفضلاء: كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء، فإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، وما أروع ما أصله فاروق الأمة عمر يوم أن جاءه والد يشكو إليه عقوق ولده، فقال: [ائتني به، فجاء الشاب فوقف بين يدي عمر، فقال له: لمَ تعق والدك؟ فقال الشاب: ما حقي على أبي يا أمير المؤمنين؟! قال: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك، وأن يعلمك القرآن.

فقال الشاب: والله ما فعل أبي شيئاً من ذلك يا أمير المؤمنين.

فالتفت عمر للوالد وقال: لقد عققت ولدك قبل أن يعقك.

].

عقوق متبادل أخرج هذه النبتة السيئة والحصاد المر، وإهمال الوالدين للأبناء لن يضر الأبناء فحسب، بل يضر الآباء قبل الأبناء في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:٦] وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته).

فإن غش الراعي الرعية حرم الله عليه الجنة، ففي الصحيحين من حديث معقل بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) فاستقالة الأسرة، وغياب القدوة، الولد الذي يرى أباه لا يصلي، كيف يتعلم الصلاة إلا إذا وفقه المولى جل في علاه؟ البنت التي ترى أمها متبرجة مستهترة لا تُخلص لزوجها كيف ستتعلم الفضيلة؟!

مشى الطاوس يوماً باختيال فقلده بمشيته بنوه

العلاج: أن تعي الأسرة مسئولية التربية، وأن يتق الوالدان الله، وأن يعلما يقيناً أنهما مسئولان بين يدي الرحمن جل وعلا، أسأل الله أن يستر عليّ وعليكم في الدنيا والآخرة.