[التوكل على الله والأخذ بالأسباب]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة: انظروا إلى آيات قدرة الله جل وعلا: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:٢٤] حتى إن كان المنادي هو جبريل كما قال أصحاب الرأي الأول، فإنها أيضاً كرامة، فجَّر الله لها عيناً من الماء، أو نهراً من الماء، وأسقط جل وعلا عليها الرطب، ولكن هنا ملحظ جميل ينبغي أن يتوقف عنده: يقول لها المنادي: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٥] سبحان الله! يوم أن سألت مريم عن الأسباب قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٥] وقبل ذلك كان رزقها يأتيها بدون أسباب، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٣٧] ولكنها حينما سألت عن الأسباب، وعن الكيفية، وكيف ذلك، وكيف يكون {أَنَّى يَكُونُ لِي} [مريم:٢٠] قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:٢٥].
وهنا ملحظ آخر: وهو أنه لا بد من الأخذ بالأسباب، فمن التوكل على الله جل وعلا الأخذ بالأسباب وترك النتائج إلى مسبب الأسباب، أما أن نقول: نحن متوكلون على الله، وندع الأسباب، ولا نأخذ بأسباب القوة، وبأسباب البقاء والقيادة والكرامة في الأرض، ونقول: إننا موحدون ومؤمنون، ولم تأتنا قوة؛ فهذا أمر غير شرعي، بل لا بد من الأخذ بالأسباب، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:٦٠]، علينا أن نحرث الأرض ونلقي البذر في الأرض ونتولاه بالعناية والرعاية، ومع ذلك لا نتوكل على الأسباب، ولا نعتمد على الأسباب، وإنما نترك النتائج لمسبب الأسباب جل وعلا.
يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: فمن أخذ بالأسباب وتوكل عليها واعتمد عليها، وظن أن الأسباب وحدها ترزق وتنصر فقد أشرك بالله عز وجل.
خذ بالأسباب كما أمرك الله، ولكن إياك أن تعتقد أن الأسباب وحدها ترزق أو تنصر، وإنما توكل على مسبب الأسباب جل وعلا، خذ بالأسباب واترك النتائج لمسبب الأسباب تبارك وتعالى {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٥].
وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي بسند حسن، ورواه أبو داود وابن ماجة والحاكم في المستدرك من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:٢٥ - ٢٦] لا تحزني ولا تقلقي، فإن الذي أجرى لك هذه الكرامات، وأجرى أمام عينيك هذه الآيات البينات الواضحات على كمال قدرته جل وعلا، هو وحده القادر على أن يبرئك.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:٢٦] وهذا كان وارداً في شرعهم، يقول الإمام ابن حجر والإمام ابن قدامة: كان جائزاً في شرعهم.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:٢٦] فاطمأن قلبها، وانشرح صدرها، وقويت على أن تواجه القوم بعد هذه الآيات البينات، وحملت ولدها المبارك، وذهبت به لتواجه القوم ومعها كل هذه الأدلة والبينات، وقبل كل ذلك وبعده معها الله عز وجل الذي قدر ولا راد لمشيئته ولا راد لقدرته.
أسال الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إن دعيت به أعطيت، وإن سئلت به أجبت، نسألك اللهم بعزك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اجعل هذا البلد مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم وفق ولاة الأمر للعمل بكتابك، والاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم أصلح ذات بين المسلمين، اللهم ألف بين قلوبهم يا رب العالمين، اللهم وحد صفوفهم يا أرحم الراحمين، اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: ما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.