[السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله]
عرض خامس وهو أيضاً من أكبر الأعراض للهزيمة النفسية: ألا وهو السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل هم هذا الدين بسلبية قاتلة، فجُلَّ المسلمين الآن لا همَّ لهم إلا أن يعيش لشهواته الحقيرة ونزواته الرخيصة، يبذل كل طاقة من أجل العرش والكرش والفرش، لا يحمل للدين هماً، ينظر إلى المنكر فيهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، ينظر إلى مسلم لا يعرف شيئاً عن دين الله، يراه جاهلاً بالسنة فلا يفكر في أن يعلمه السنة بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الرقراقة الرقيقة، لا يحمل للدين هماً ولا للدعوة هماً في قلبه، فراغه سلبياً، بل ربما يبرر لنفسه سلبيته ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥].
وقديماً خشي الصديق رضوان الله عليه هذه السلبية القاتلة على أفراد الأمة، فارتقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده -وفي لفظ: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده- ثم يدعونه فلا يستجاب لهم) والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وصححه الشيخ الألباني.
نحن سمعنا: ركبوا سفينة واحدة -أيها الأخيار- إن نجت السفينة نجونا جميعاً، وإن هلكت هلكنا جميعاً، ولو كان على سطحها الصالحون كما في الصحيح من حديث النعمان بن بشير: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: لو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً) فلا تكن سلبياً يا أخي، ابذل المعروف ولو بكلمة، تحرك ليرى الله منك أن قلبك يحترق على أحوال الأمة وعلى أمر هذا الدين، على حال الدعوة، تحرك بكل ما تملك، ابذل أقصى ما في طاقتك ولست مسئولاً عن النتائج: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:١٠٥] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧] المهم أن تعمل.
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
أكبر عيب فيك أنك تستطيع أن تؤدي شيئاً ولكنك لا تريد أن تؤديه، ابذل وتحرك، سبحان الله! لعل الله أن يهدي على يديك بكلمة واحدة رجلاً إن رأى الله وعلم منك الصدق، لعلَّ الله أن يهدي على يد زوجتك التي علمتها امرأةً، المهم أن تبذل، وألا تكن سلبياً، تحرك للدعوة وتحرك للدين، فكر! كيف أخطط لدين الله؟ كيف أعمل لدعوة الله؟ أنت تخطط في الليل والنهار لتزيد الألف ألفاً، ولتحصل على العلاوة والمكافأة، ولتنشط في التجارة والعمل، وهذا خير، لكن كما تفكر للدنيا فكر للدين: (من كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وشتت الله عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه أمره، وأتته الدنيا وهي راغمة) والحديث صححه الشيخ الألباني بمجموع الطرق، وحسنه بعض أهل العلم من أهل الحديث.
فلا تنشغل على أمور الدنيا على طول الخط ولا تكن سلبياً، أريد أن أربي الأولاد، لن أغير الكون، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله! بل هناك والله من يقول: دع ما لله لقيصر، أمرٌ عجب! يجب عليك أن تدعو إلى الله على قدر استطاعتك، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) بل دعا النبي صلى الله عليه وسلم لكل من حمل عنه بدقة وأمانة، فقال والحديث صحيح: (نضّر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع) ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لك بنضارة الوجه، بل وحملك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمانة الثقيلة، فقال والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان) لا عذر لك أمام الله، ولا عذر لك إن عجزت أن تغير بيدك فغير بلسانك، وإن كنت قادراً على أن تغير بيدك غير بيدك بالضوابط الشرعية المعلومة، والقول الذي يقول: التغيير باليد للحكام، وباللسان للعلماء، وبالقلب لعوام المسلمين، قول لا دليل عليه، بل يجب عليك إن كنت قادراً على أن تغير منكراً بيدك دون أن يترتب على المنكر ما هو أنكر فغير بيدك، ومن نفيس كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين يقول: لقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه فهو أمر بمنكر وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بـ مكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله عليه مكة وصارت مكة دار إسلام وعزم على هدم البيت ورده على قواعد إبراهيم لم يفعل ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهدٍ بكفرٍ وقريبة عهدٍ بالإسلام، هذا هو فقه الإنكار، فقه الموازنة بين المفاسد والمصالح، لا تكن متهوراً أو جباناً، فإذا استشكل عليك الأمر فعد إلى المشايخ والعلماء، ولا تتعجل.
إذاً: إن عجزت أن تغير بيدك فبلسانك، سيقول العاجز: أنا أغير بلساني؟! لا أجيد الكلمة، لا أستطيع التعبير، وقد يسألني الآن طالب علم فيقول: ما صفة التغيير بالقلب؟ كيف أغير المنكر بقلبي؟ أقول: لا عذر لك أمام الله عزوجل، فيجب عليك أن تأخذ الأمر بجدية وأن تدع هذه السلبية، وأن تتحرك لتحمل هم دعوة خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم، فإن رأيت منكراً وكنت قادراً على أن تغيره بيدك بالضوابط المعلومة للجميع غيره، وإن عجزت فبلسانك، وأذكر أنني نبهت أحبابي في هذا المسجد المبارك قبل ذلك إلى أن يفرقوا بين مقامين؛ لأن الخلط بينهما يحدث إشكالاً أو إشكالات كثيرة ألا وهما: مقام الدعوة، ومقام الجهاد، لا تخلط بين المقامين؛ مقام الدعوة -أيها الحبيب- هو اللين من حرف الألف إلى حرف الياء، من أول خطوة على طريق الدعوة إلى آخر خطوة إن كنت تدعو كافراً فضلاً عن مسلم عاصٍ، فواجب عليك أن تحقق لهذا المقام ضوابطه وشروطه التي حددها الله جل وعلا ولم يدعها لداعية من الدعاة ليحددها بنفسه، فقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥] هذا مقام دعوة، وانظر إلى مقام القتال والجهاد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:٧٣] هذا مقام قتال وجهاد، فلا تخلط بين المقامين؛ لأن هذا مقام قتال وليس مقام دعوة: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:٤٣] وفرعون هو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:٢٤] الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] والذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:٥١] إلى آخره.
{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤] هذا مقام الدعوة، لكن عندما يكون المقام مقام جهاد: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:٨٨] فلا تخلط بين المقامين، فتحرك، فإن عجزت أن تغير بيدك غيرت بلسانك، فإن عجزت فبقلبك، وللقلب شرطان لتحقق الإنكار به: الشرط الأول: أن يرى الله عزوجل منك بغضك وكرهك لهذا المنكر.
الشرط الثاني: أن تترك المكان الذي يُرتكب فيه المنكر وأنت عاجزٌ عن تغييره بيدك أو بلسانك إن استطعت، والله يا شيخ! التلفاز حرام ومنكر، ويعطونا أفلام وهو جالس طوال الليل أمام التلفاز، لماذا لا تتحرك؟ أنت تقضي الليل كله على مشاهدة هؤلاء الساقطين وتأتي لتقول: هم يعرضون علينا المنكر، غير هذا المنكر بقلبك ليرى الله منك بغضه، احتراق قلبك على هذا المنكر الأليم، على هذه السفالة، ولا تجلس لتدنس نظرك وقلبك، فإن الفتن أول ما تعرض تعرض على القلوب؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) إلى آخر حديث حذيفة، فاحذر الفتن.
تريد أن تغير المنكر بقلبك بأن تبغض هذا المنكر، وأن تدع المكان الذي يرتكب فيه المنكر؛ لأنك لست قادراً على أن تغيره أو تبدله، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:٦٨].