[وجوب الجلد أو اللعان لمن قذف امرأته]
أخرج الإمام أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو داود وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت آية سورة النور -أي: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)) [النور:٤] إلى آخر الآية قال سعد بن عبادة: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أما تسمعون ما يقول سيدكم؟ فقال الأنصار: لا تلمه -يا رسول الله- فإنه رجل غيور، والله! ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة قط فاجترأ أحد منا على أن يتزوجها من شدة غيرته، فلا تلمه يا رسول الله! فقال سعد بن عبادة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! والله! إني لأعلم أنها لحق، وأنها من عند الله تعالى، لكني تعجبت! فإذا رأيت لكاعاً -أي امرأته- قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه حتى أنطلق لآتي بأربعة شهداء! والله! ما آتي بهم إلا وقد قضى حاجته يا رسول الله!) وفي لفظ البخاري ومسلم أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: (والله! لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: أتعجبون من غيرة سعد؟! والله! لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) فالله يغار، وصفة الغيرة لا ينبغي أن تؤول أو تعطل أو تكيف أو تمثل، فالله جل وعلا يغار، (ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فما لبث ذلك المجتمع الطاهر الكريم إلا يسيراً حتى ابتلي بما خافه سعد بن عبادة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم بألفاظ مختلفة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فوالله! لم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء هلال بن أمية - وهذا من الثلاثة الذين تخلفوا، وتاب الله عليهم- من أرضه عشاءً، فدخل على أهله، فوجد رجلاً يفعل الفاحشة بأهله، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يهيجه، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني جئت أهلي عشاءً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، واتهم هلال زوجته، وقذفها بالزنا عند رسول الله برجل يقال له: شريك بن سحماء هكذا قذف هلال امرأته بالزنا، فما العمل؟ وما الحل؟ كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به هلال بن أمية، واشتد عليه ذلك، واجتمعت عليه الأنصار وقالوا: لقد ابتلينا بما قاله سعد بن عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: يا هلال! البينة أو حد في ظهرك؟ فقال هلال بن أمية: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته ينطلق يلتمس البينة؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أو حد في ظهرك؟ وإذا بـ هلال يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ به ظهري من الحد.
يا إلهي! أي ثقة هذه؟! وأي يقين بالله هذا؟! يقول الرجل: (ولينزلن الله ما يبرئ به ظهري من الحد) يقول ابن عباس: والله! لقد أراد رسول الله أن يقيم الحد على هلال بن أمية، وبينما هو كذلك إذ أنزل الله الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي عرف الصحابة ذلك، فأمسكوا عنه، فلما فرغ الوحي سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما فعل: أن التفت إلى هلال بن أمية وقال: أبشر يا! هلال! أبشر يا هلال! فلقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً، فقال هلال بن أمية: والله! لقد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل).
فنزلت على الحبيب آيات اللعان لتبت الأمر في هذه القضية الخطيرة، وتلا الحبيب صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:٦ - ١٠] ثم قال الحبيب: (أرسلوا إليها، فجاءت امرأة هلال بن أمية، فتلا النبي عليهما الآيات، وذكرهما بالله عز وجل، وأخبرهما أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم قال هلال: والله! إني لصادق يا رسول الله! فقالت المرأة: إنه لكاذب، فقال النبي: لاعنوا بينهما، فقيل لـ هلال بن أمية: اشهد بالله، فشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: صادق فيما قذف به امرأته من الزنا، ولما كانت الخامسة قيل له: يا هلال اتق الله! فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة؛ وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال هلال: والله! لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، وإني لصادق، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة: اشهدي بالله أربع شهادات أنه من الكاذبين، فشهدت المرأة أربع شهادات إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله! فإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، وإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فتلكأت المرأة ساعة، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله! لا أفضح قومي، فشهدت على نفسها في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين).
وهنا فرق النبي بينهما، وقضى بالولد لها، ونهى عن أن ينسب الولد لأب، وأسقط النسب عن هلال بن أمية، وحذر من أن يرمى ولدها، فمن رماه أقيم عليه حد القذف، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انظر! فإن جاءت به -أي: بولدها- أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين، فهو لـ شريك بن سحماء، فلما وضعت المرأة ولدها كان بمثل ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: والله! لولا ما قضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن).
اللعان بمثابة البينة للزوج الذي رأى زوجته على الفاحشة -والعياذ بالله- ولم يستطع أن يأتي بالشهود، فله أن يلاعنها ويترتب على اللعان الأحكام التالية: أولاً: أن يفرق بينه وبين امرأته.
ثانياً: أن تحرم المرأة عليه تحريماً أبدياً.
ثالثاً: أن يسقط عنه النسب؛ فلا ينسب الولد إليه.
رابعاً: أن يسقط عنه حد القذف، فلا يقام عليه حد القذف، ولا يجلد.
الخامسة: أن ترجم المرأة إذا لم تلاعن، فإذا لاعنت هي الأخرى لا يترتب على لعانها إلا حكم واحد، ألا وهو أن يسقط عنها حد الرجم.