[ابتداء رحلة المعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: بدأت الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى وصلى ركعتين، وبعدما خرج وجد جبريل يقدم له إناءين: إناءً من لبن، وإناءً من خمر، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبريل: قد أصبت الفطرة يا محمد! ثم تبدأ رحلة المعراج، وهنا نرجع مرة أخرى إلى حديث أنس في صحيح البخاري.
يقول: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى السماء الأولى فاستفتح، فقيل: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم)، ولا تفهم أخي قوله: (أوقد بعث إليه) أي: هل هو رسول مبعوث من قبل الله؟! وإنما المراد: أوقد بعث إليه ليصعد إلى الملأ الأعلى، (أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به فنعم المجيء جاء، يقول: وإذا آدم عليه السلام، فيقول جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فيقول المصطفى: فسلمت عليه في السماء الأولى فرحب بي، ورد علي السلام، ودعا لي بخير وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فرأيت عيسى ويحيى ابنا الخالة، فقال جبريل: هذا يحيى وعيسى سلم عليهما، فسلم النبي عليهما فردا عليه السلام، وقالا له: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعيا للنبي بخير.
يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثالثة يقول: فإذا يوسف، فقال جبريل: هذا يوسف فسلم عليه، فسلم النبي عليه وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح إلى آخره، ثم قال له إدريس في الرابعة مثل ذلك، ثم قال له هارون في الخامسة مثل ذلك، ثم قال له موسى في السادسة مثل ذلك، ثم قال له إبراهيم في السابعة، مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، كما قال آدم عليه السلام، يقول المصطفى: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:١ - ١٤]) الرائي هو محمد، والمرئي هو جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رآه النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته التي خلقه الله عز وجل عليها.
يقول: (فرفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا نبتها كقلال هجر)، الثمرة من النبق -الثمر المعروف- كقلال هجر، ضخامة: (وإذا ورقها كآذان الفيلة)، جمع فيل أو جمع فيول، واللغتان صحيحتان: (وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقال المصطفى: ما هذا يا جبريل؟! فقال جبريل: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما النهران الظاهران، فالنيل والفرات)، أصلهما من الجنة، ولكن لا تفهم أنهما الآن متصلان بالجنة.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثم رفع لي البيت المعمور)، والبيت المعمور بناء كالكعبة، والراجح والصحيح أن في كل سماء بيتاً معموراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، وهو بمحاذات بيت الله الحرام، بمعنى: لو خر البيت المعمور لخر على الكعبة، والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون، فإن غفلت أنت عن الذكر فعنده من يذكره جل وعلا، لا يغفلون عن ذكره ولا يفترون: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠].
وفي رواية صحيحة: (ثم انطلقت إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام) اقترب النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرب الكبير وكرمه الله هذا التكريم العظيم ثم فرض الله عليه الصلاة، خمسين صلاة فقبل ورضي وسلم واستسلم فهو المطيع لربه دوماً، ولما مر على إبراهيم في السابعة لم يقل له شيئا وقد تلحظ طبيعة إبراهيم في هذا: إنه لأواه حليم: (ثم مر على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال له موسى -الذي قد تلمح طبعه أيضاً من هذا، بل ومن آيات كثيرة في القرآن- قال: فما أمرت؟ قال: أمرني الله بخمسين صلاة كل يوم وليلة، فقال موسى: لقد جربت الناس قبلك، إن أمتك لا تستطيع ذلك، فلقد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك) صلى الله على موسى وصلى الله على محمد، لا نفرق بين أحد من رسوله ولا داعي لسرد الأقوال التي تنضح بالحقد، والتي تريد أن تبث العداء بين أنبياء الله ورسوله، فالحديث صريح في لفظه وواضح في معناه، لا يحتاج إلى لي لأعناق الكلمات ولا لأعناق النصوص.
قال موسى: (إني قد عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع المصطفى إلى الله، فحط الله عنه عشراً، وعاد إلى موسى فقال: ارجع، فحط الله عنه عشراً وهكذا حتى بلغت الصلاة عشراً فقال له موسى: ارجع، فرجع حتى حط الله عنه خمساً، وفرض الله عليه خمس صلوات فلما عاد إلى موسى قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فقال له له المصطفى: إني قد استحييت من ربي عز وجل وإنما أرضى وأسلم، يقول: فانطلقت فسمعت المنادي يقول: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي).
وهكذا أيها الأحبة! تنتهي رحلة المعراج.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المكان المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم أقلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.