عمر الفاروق ذلكم الرجل العملاق الذي بركت الدنيا بزخارفها وسلطانها على عتبة داره؛ فطلقها ثلاثاً وسرحها سراحاً جميلاً، وقام ينفض يديه من علائق هذا المتاع الزائف، واستأنف سيره وسط الصحراء تحت حرارة الشمس المحرقة، تراه يجري وراء بعير قد ند من إبل الصدقة يخشى عليه الضياع، ويخشى أن يسأل عنه بين يدي الله جل وعلا يوم القيامة، أو تراه -وهو الفاروق الخليفة- منحنياً على قدر فوق نار مشتعلة ينفخ النيران تحت القدر لتنضج النيران طعمة سريعة لأطفال يتضورون جوعاً، أو تراه واقفاً أمام خيمة رجل يبكي على امرأته التي أدركها المخاض وهي لا تجد أحداً يؤنسها؛ فيسرع ليأتي بزوجة خليفة المسلمين لتقف مع هذه المرأة المسلمة حتى تضع ولدها، أو تراه يمشي في السوق يتفقد أحوال الناس فيرى إبلاً سمينة فيسأل عمر الفاروق: إبل من هذه؟ فيقولون: إبل عبد الله بن عمر، وكأن حية رقطاء قد انقضت عليه فلدغته، وأفرغت كل سمها في جوفه، فيقول: بخ بخ! إبل عبد الله بن عمر، ائتوني به، ويأتي عبد الله يرتجف ويرتعد وهو إمام الزهد والورع، فيقول عمر: يا عبد الله! ما هذه الإبل؟! فيقول ابنه إمام الزهد والورع: يا أبت! إبل كانت مريضة هزيلة، اشتريتها بخالص مالي، وأطلقتها في الحمى ترعى، وأتيت بها إلى السوق أبتغي ما يبتغيه المسلمون من الربح والتجارة.
فقال عمر في تهكم لاذع: بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين، إذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين! اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين، قال: عبد الله: لبيك يا أبت مرني بما شئت.
قال: بع الإبل الآن، وخذ رأس مالك، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين! عمر الذي اشتهت زوجه الحلوى يوماً فأبى عليها يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقي البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها إن جاع في شدة قوم شركتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها فتلك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها واسمع للمصطفى وهو يضع الأوسمة على صدر عمر الفاروق فيقول كما في سنن الترمذي من حديث ابن عمر وهو حديث حسن:(إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:(رأيتني وأنا في الجنة، ورأيت قصراً وإلى جواره جارية تتوضأ، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لـ عمر بن الخطاب يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فتذكرت غيرتك يا عمر فأدبرت، فلما سمع عمر ذلك من رسول الله بكى، وقال: أو عليك أغار يا رسول الله؟!).
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص -جمع: قميص- منهم ما يبلغ الثدي، ومنهم دون ذلك، وبينما هم كذلك إذ عرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجتره -قميص يجره على الأرض-، قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين).
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال:(بينا أنا نائم إذ عرض علي قدح من اللبن، فشربت حتى إني أرى الرِي يخرج من بين أظفاري، ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى من الشراب- لـ عمر قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: العلم).
وفي الصحيحين (أن عمر بن الخطاب استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه عالية أصواتهن؛ فلما سمعن صوت عمر يستأذن على رسول الله قمن يبتدرن الحجاب، فدخل عمر والنبي يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله؟! -يعني: لماذا تضحك؟ سؤال بأدب- فقال المصطفى: أضحك من هؤلاء اللائي كن عندي، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب! فقال: أنت أحق أن يهبنك يا رسول الله، ثم التفت عمر إلى النسوة فقال: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟! والمرأة لا يخونها لسانها في مثل هذه المواقف فقلن: نعم؛ لأنك أفظ وأغلظ من رسول الله! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم قولة عجيبة، التفت إلى عمر وقال: إيه يا ابن الخطاب! والله ما رآك الشيطان سالكاً فجاً -أي: طريقاً- إلا وتركه لك، وسلك فجاً غير فجك) فهل يسب عمر فاروق الأمة؟!! وهل يسب الخيران؟!! أسأل الله عز وجل أن يجمعنا بهما في جنات النعيم.