[(وجاءت سكرة الموت بالحق)]
فيا أيها الحبيب! أخاطب الجميع الآن، أخاطب الكبير والصغير، أخاطب الرجل والمرأة، أخاطب الشاب والفتاة، أخاطب كل مسلم بهذه الحقيقة التي غفل عنها كثيرٌ من الناس، والتي سماها الله في قرآنه (بالحق) فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] والحق أنك تموت، والله حيٌ لا يموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:١٩] والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:١٩] والحق أن قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] ذلك ما كنت منه تهرب وتجري وتفر، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وإلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وإلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا؟ أيها القوي الفتي، يا أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير!
كل باكٍ فسيُبكى
كل ناعٍ فسيُنعى
كل مذخورٍ سيفنى
كل مذكورٍ سينسى
ليس غير الله يبقى
من علا فالله أعلى
يا من غرك جاهك! يا من غرتك وزارتك! يا من غرك كرسيك! يا من غرك منصبك! يا من غرك مالك! يا من غرك جندك! يا من غرتك قوتك! تذكر يوم أن تخرج من هذه الدنيا وقد انفض عنك الجمع، انفض عنك الجند والمال والأهل، انفض عنك الأحباب، فوقفت بين يدي الله جل وعلا ليسألك عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير.
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيضٍ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
قال الجليل خذوه
خذوه هو الذي حارب الله وحارب سنة رسول الله، وحارب النقاب، وهو الذي أعلن الحرب على الحجاب، وحارب الأبرار، وحارب الأخيار، خذوه.
قال الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] ذلك ما كنت منه تهرب:: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:٢٦] من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ ومن الذي يقدم له الطب والعلاج؟ من الذي يحول بينه وبين أمر الله جل وعلا؟! انظر إليه وهو على فراش الموت، وهو من هو؟ صاحب الجاه والوزارة والإمارة والملك، نام على فراش الموت، التف الأطباء من حول رأسه، ذلك يبذل له الرقية، وذلك يقدم له العلاج، فهم يريدون شيئاً، وملك الملوك يريد شيئاً آخر.
انظر إليه وقد زحف الموت إليه، وقد اصفر وجهه، وشحب، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهريرٍ قارص يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا تريد أن تتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بلا إله إلا الله، لأهل الإيمان، ولأهل التوحيد، ولأهل الاستقامة.
في هذه السكرات ينظر فإذا وعى ما حوله في لحظة الصحوات بين السكرات والكربات، ينظر فيرى ملائكة من بعيد تقترب يفرح أهذه ملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟ يا ترى أهذا الذي جالسٌ عند رأسي الآن من هو؟ إنه ملك الموت، يا ترى ماذا سيقول لي؟ هل سيقول لي: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان وربٍ راضٍ غير غضبان، أم سيقول لي: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وعذاب؟ فإذا نظر إلى أهله وأولاده وأحبابه ووعاهم نظر إليهم نظرة استعطاف ورجاء وأمل، وهو يقول بلسان الحال بل بلسان المقال: يا أحبابي! يا إخواني! يا أولادي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا كبيركم، أنا الذي بنيت لكم القصور، وعمرت لكم الدور، أنا الذي كان يقف الناس بين يدي، وكان يركع الناس بين يدي، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أفدوني بأعماركم وبأموالكم، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، فهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٨٣ - ٩٦].
سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوبٍ لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعاني ويندبني
وقد أتوا بطبيبٍ كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفقٍِ ولا هونِ
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقام من كان أغلى الناس في عجلٍ نحو المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجلٌ منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وغادروني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفنِ
وحملوني على الأكتاف أربعةً من الرجال وخلفي من يشيعني
فقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا عليَّ صلاةً لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وقدموا واحداً منهم يلحدني
فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني
وقال هلوا عليه الترب
يا مسكين! يا من ضحك الناس عليك! يا من نفخك الناس نفخاً! يا من غرك الناس غروراً! يا مسكين! رجعوا وتركوك، يا مسكين! في التراب وضعوك، يا مسكين! للحساب عرضوك، يا مسكين! والله لو ظلوا معك ما نفعوك، فلم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت.
وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المننِ
يا نفس! ويحك توبي! اتق الله، اتق الله ولا تحارب الله ورسوله، ولا تحارب الأطهار، ولا تحارب الأخيار.
يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عساك تجزين بعد الموت بالحسنِ
وامنن علي بعفوٍ منك يا أملي فأنت الرحمن ذو المننِ
: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:٢٧] من يرقيه؟ من يبذل له الرقية؟ من يقدم له العلاج؟ من يحول بينه وبين ما وقع به؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:٢٧] من يرتقي بروحه إلى السماء؟ تفسيرٌ آخر من يحمل روحه ويرتقي بها إلى الله جل وعلا؟ أي: من الملائكة التي نزلت لتشيع هذه الروح بعد معالجة ملك الموت لها.