للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أولاً: تعريف السحر لغة واصطلاحاً

السحر في اللغة هو: كل شيءٍ خفي سببه ولطف ودق.

يقول أبو عبيد: وأصل السحر في اللغة هو الصرف، أي: صرف الشيء عن حقيقته، قال الله تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٩] أي: فأنى تصرفون، يقول: وقد يكون الصرف للعين وهو الأُخذة أي: أن تؤخذ العين فلا ترى الشيء على حقيقته التي هو عليها في الواقع، وقد يكون الصرف للقلب من الحب إلى الكره، ومن الكره إلى الحب، ومن البغض إلى الحب، وهكذا.

وقد يكون الصرف بالقول الحلال، ألا وهو البيان والحديث كما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً) فالصرف أن يحب هذا فيبغضه عن طريق السحر، وهذا الرجل يحب زوجته فيبغضها، وقد يكون الصرف للعين فترى العين الشيء على غير حقيقته التي هو عليها في الواقع، وقد يكون الصرف للعقول وللقلوب بالقول والبيان الدقيق المنمق.

ولم يفرق بعض العلماء بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للسحر كما نسج في ذلك الإمام الكبير الفخر الرازي، وإن كنا نعلم أنه من أكابر علماء المعتزلة إلا أنه قال: إن السحر في عرف الشرع هو كل أمرٍ يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته في الواقع ويجري مجرى التمويه والخداع، وقد سار على ضربه ووافقه في ذلك الإمام الكبير أبو بكر الجصاص، وهؤلاء وغيرهم ممن يقولون: إن السحر خيالٌ وتخييل ولا حقيقة له في الواقع، وسوف أرد عليهم إن شاء الله جل وعلا.

هذا هو الرأي الأول الذي يقول بأن السحر في الاصطلاح: تخييل ورؤية الأشياء على غير حقيقتها، وتمويه وخداعٌ.

أما الرأي الثاني وهو رأي جمهور أهل السنة والجماعة، والذي يعرفه الإمام القدير ابن قدامة في كتابة الكبير المذهل المغني مع الشرح الكبير في المجلد العاشر إذ يقول: والسحر عقدٌ ورقى وكلامٌ يتكلم به الساحر أو يكتبه أو يعمل شيئاً فيؤثر في بدن المسحور من غير مباشرة له، وله (أي: وللسحر) حقيقة فمنه، (أي: من السحر)، ما يقتل -ومازال الكلام لـ ابن قدامة - فمن السحر ما يقتل ومنه ما يمرض وما يأخذ الرجل عن أهله فيمنعه وطأها، ومن السحر ما يفرق بين الزوج وزوجه ومنه ما يحبب بين اثنين.

هذا تعريف السحر عند علماء أهل السنة والجماعة، إذاً فمذهب جمهور السلف أن السحر ليس تخييلاً ولكنه حقيقة له واقعٌ ملموسٌ محسوسٌ مشاهد، فمنهم من قال: بأنه تخييل، ومنهم من قال: بأنه حقيقة.

ومن ثم -يا أحبابي- يجب علي هاهنا أن أفرق لكم بين ثلاثة أشياء خطيرة ألا وهي: السحر والكرامة والمعجزة، حتى لا تختلط الأوراق وتتلابس وتتشابك الأمور.

ما الفرق بين السحر والكرامة والمعجزة؟ السحر اتفاق وعقدٌ مبرمٌ بين ساحرٍ وشيطان، بشرط أن يزداد الساحر كفراً لله وعبادة للشيطان، وكلما ازداد الساحر كفراً وزندقة وانحلالاً ازداد الجني أو الشيطان طاعة لهذا الساحر، هذا هو عقد السحر.

أما الكرامة فلا تكون إلا لولي.

والمعجزة لا تكون إلا لنبي.

وجماعهما الأمر الخارق للعادة كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في المجلد الحادي عشر في بحثٍ قيمٍ مبدع لمن أراد أن يطَّلع عليه، الكرامة للولي، والمعجزة للنبي ومن ثم يجب أن نفرق أيضاً بين أولياء الرحمن، وبين أولياء الشيطان، فإن ولي الشيطان يحدث الشيطان له خرقاً للعادة ليفتن الناس وليضلهم عن التوحيد والهدى، ومن ثم إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء وهو غير متبعٍ لشرع المصطفى فاشهدوا له بالكفر فإنه ولي من أولياء الشيطان.

أما أولياء الرحمن فهم الذين يجري الله على أيديهم أموراً خارقة للعادة وهم لا يريدونها ولا يحبون إظهارها، ومن ثم قال الله جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:٦٢] من هم أولياء الله؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٣] فالولي هو المؤمن التقي الذي يوحد الله حق توحيده، ويعبد الله حق عبادته ويخلص عمله لله ويخلص اتباعه لسيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما ازداد تُقاً وقُرباً قد يجري الله على يديه أمراً خارقاً للعادة، والولي لا يريد إظهاره، ذلك ولا يحب إظهار ولذا قال أحد السلف: النفس تتمنى الكرامة وتأبى الاستقامة، والله جل وعلا قد أمرها وطلب منها الاستقامة ولم يطلب منها الكرامة، فولي الرحمن بخلاف ولي الشيطان.

أما المعجزة فهي لا تكون إلا للنبي، وقد فرق بعض أهل العلم من علماء السلف بين الكرامة والمعجزة؛ أن الكرامة قد يجريها الله إذا شاء على يد ولي من أوليائه، ولكن المعجزة يجريها الله على يدي رسولٍ من رسله في مقام التحدي، في مقام إظهار الرسالة، وإظهار النبوة لهذا النبي الذي يتحدى قومه، ومن ثم تحدى موسى قومه بما برعوا فيه ومن جنسه بالسحر، برع قومه في السحر فأمده الله بعصا تنقلب إلى حية عظيمة تلقف ما يأفكون.

وأمد الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزةٍ من جنس ما برع فيه قومه، برع قومه في البلاغة والفصاحة والبيان فأعطاه الله جل وعلا القرآن الذي تحدى به البشرية كلها بل وما زال التحدي قائماً إلى يوم القيامة فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:٢٣ - ٢٤] فأمده الله بالقرآن فسجد المشركون في محراب بلاغة وفصاحة كلام الحق جل وعلا، ولا يتسع الوقت للتدليل على هذا.

وهكذا أيها الأحبة! فالمعجزة من النبي من باب التحدي لهؤلاء الذين أرسل إليهم وبعث فيهم، يجري الله على يديه أمراً خارقاً للعادة وخارقاً لنواميس وقوانين هذا الكون ليثبت لهم أنه مرسلٌ من قبل الله جل وعلا.

وأنتم تعلمون أن النار قانونها هو الإحراق، ويأبى الله إلا أن يحول هذا القانون وأن يسلبه من النار حينما ألقى المشركون إبراهيم في النار فقال الله جل وعلا: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩].

وتعلمون أن قانون المياه هو الإغراق لا سيما إذا ما وضع شيءٌ في الماء تزيد كثافته عن كثافة الماء، فسرعان ما يسقط ويهوي، ولكن ما الذي حدث؟ جعل الله عنصر الإغراق وعنصر الإهلاك عنصر حياةٍ وأمن وأمان لنبي من أنبيائه فأوحى الله جل وعلا إلى أم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧].

فالمعجزة شيءٌ خارق للعادة ولقوانين ونواميس هذا الكون، يجريها الله على يد رسول من رسله، ونبي من أنبيائه في مقام التحدي لهؤلاء القوم الذين أنكروا رسالته، وأنكروا نبوته من قبل الله جل وعلا.

إذاً أيها الأحبة! من العلماء من قال: إن السحر تخييل لا حقيقة له، ومنهم من قال: بأن السحر حقيقة لا تخييل.