[فاعتبروا يا أولي الأبصار]
قولوا من الواجب أن يدندن الإعلام المسلم على العظة والعبرة، فلقد تحطمت السيارة التي تركبها المرأة مع عشيقها، وتحولت إلى كومةٍ من الحديد تشبه علبة السجائر التي داستها الأقدام، والعهدة على جريدة الأهرام على صدر صفحتها الأولى، أما لنا في هذا عبرة؟! ولكن العقول وجهت توجيهاً آخر، أما المؤمن الذي يرى برؤية القرآن، ويرى برؤية السنة ينظر إلى الأحداث نظرة أخرى؛ لأن المؤمن يحمل قلباً وعقلاً يختلف تماماً عن قلب وعقل رجلٍ لم يوحد الله جل وعلا، ولم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه السيارة الضخمة الفخمة تتحول في غمضة عينٍ وانتباهتها إلى كتلة حديد؟! نعم أراد ذلك العزيز الحميد، قضى الملك: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨] إنه الموت يا سادة، إنه الموت يا قادة، إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى التي يسكت عندها جبروت المتجبرين، إنها الحقيقة الكبرى التي يسقط عندها عناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون، بل وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون، قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:٢٦ - ٣٠].
وقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:١٩ - ٢٢] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:١٩] والحق أنك تموت والله حيٌ لا يموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:١٩] والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] أي: ذلك ما كنت منه تهرب، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير؟ كل باكٍ فسيبكى! وكل ناعٍ فسينعى! وكل مذخورٍ سيفنى! وكل مذكورٍ سينسى! ليس غير الله يبقى! من علا فالله أعلى! أين الظالمون؟ أين الملوك؟ أين الحكام؟ أين الزعماء؟ أين الوزراء؟ أين الأمراء؟ أين الصالحون؟ أين الأنبياء؟ أين الطالحون؟ أين الظالمون؟
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان
وأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلمٌ وطغيان
فهل أبقى الموت ذا عزٍ لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدمٍ الكل يفنى فلا إنس ولا جان
قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٦ - ٢٧] قال ابن عباس: [أي: من يرقى بروحه إلى السماء] أيرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقال قتادة: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٧] أي: من الذي يبذل له الرقية، ومن الذي يقدم له الطب والعلاج ليحول بينه وبين الموت؟ تحركت مستشفى كاملة إلى الأميرة في موطن الحادث، واستمر أكابر الأطباء لمدة ساعتين كاملتين في إجراءاتٍ وإسعافاتٍ أولية سريعة ليحفظوا هذا القلب، وليمنعوا الروح، ولكن رب الروح قال: لا، إذا قدر الملك شيئاً فلا راد لقضائه، والله لا يمنعك منصبك أياً كنت، والله لا يمنعك مالك مهما كان غناك، والله سترحل، والله لو دام المنصب والكرسي لغيرك ما وصل إليك، هذا طبيبٌ في المخ، وهذا في القلب، وهذا في العظام، وهذا في الأعصاب، وهذا في البطن وغير ذلك، والكل قد التف حول الأميرة ولكن ملك الملوك جل جلاله كان قد أصدر الأوامر لملك الموت، فاستقبل ملك الموت هؤلاء جميعاً ونفذ أمر الله وقضاءه وقدره {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٧] إي: من يبذل له الرقية والطب والعلاج؟ لا، إن قضى الملك شيئاً فلا يستطيع أطباء الدنيا أن يحولوا بين هذا وبين ما أراده الله جل وعلا.
أيها المسلم! انظر إليها التف من حولها الأطباء كلٍ يدعو لها الرقية، كل يبذل لها العلاج، وانظر كذلك إلى المسلم الذي نام على فراش الموت والتف من حوله الأطباء كلٌ يبذل له الرقية ويبذل له العلاج فهو من هو؟ وهي من هي صاحبت المنصب والجاه والوجاهة؟ وهو من هو صاحب المنصب والجاه والوجاهة؟ انظر إليه اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهريرٍ قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه بل إلى جسده كله.
وفقه الله لكلمة لا إله إلا الله، فينظر في لحظة صحوة بين السكرات والكربات فإذا وعى ما حوله من الأطباء والأهل والأحباب نظر إليهم نظرةً باكية، نظر إليهم نظرة استعطاف، نظر إليهم نظرة رجاء: يا إخواني! يا أحبابي! يا أهلي! يا أولادي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أخفوني بأموالي، أخفوني بأعماركم، أنسيتم من أنا؟! أنا أبوكم! أنا أخوكم! أنا الذي بنيت لكم القصور يا أولادي! أنا الذي عمرت لكم الدور! فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، أو يوماً أو يومين، أو سنةً أو سنتين؟ لا ثم لا، ثم يعلو صوت الحق فيقول جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٨٣ - ٩٦] سبحانك يا من ذللت بالموت رقاب الأمراء والأميرات والجبابرة، وأنهيت بالموت آمال الحكام والقياصرة، ونقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والجواري والغلمان إلى مقاسات الهوان والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب، سبحانك {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٩٦].
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنبُ
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعبُ
والروح منك وديعةٌ أُودعتها ستردها بالرغم منك وتصلبُ
وغرور دنياكَ التي تسعى لها دارٌ حقيقتها متاعٌ يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تُعد وتحسبُ
أسأل الله أن يرزقنا جميعاً حسن الخاتمة، وأن يرزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنةً ورضواناً، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.