[القسم الثاني: قسم عرف الطريق إلى الله وثبت عليه]
الصنف الثاني: صنف عرف الطريق وثبت عليه -أسأل الله أن نكون أنا وأنتم منهم- لأن نعمة الثبات -أيها الأحباب- من أجل النعم، أسأل الله أن يثبتني وإياكم على طريق الله، وأن يتوفاني وإياكم على التوحيد الخالص.
من الناس في الصنف الثاني من عرف الطريق إلى الله وثبت عليه، فهو يجاهد نفسه ويجاهد شيطانه وهواه ودنياه على أن يظل في هذا الطريق، ولكن الكل يختلف عن الآخر، كلنا يختلف في قدر عبادته، وكلنا يختلف في قدر طاعته، هذه فطر الله في خلقه، فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتحاقدوا، واعلموا بأن فطرة الله في خلقه أن يكون هذا التباين والاختلاف، هذا سيد عمله العلم، لا يزال عاكفاً على العلم حتى يسلك من هذا الطريق إلى الله، وهذا سيد عمله الصلاة، وهذا سيد عمله تلاوة القرآن، وهذا سيد عمله قيام الليل، وهذا سيد عمله الصيام، وهذا سيد عمله إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات وأنواع الصدقات، وهذا سيد عمله الحج والاعتمار، وهذا سيد عمله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
إذاً: فالكل يختلف بقدر ما منَّ الله به عليه من عطاء، كلنا يتباين في مقدار القرب والبعد عن الله، وكلنا يتباين في مقدار القربات والطاعات إلى رب الأرض والسماوات، وهذه فطرة الله في خلقه، وهذه سنة الله في خلقه.
ولذلك فإن الإمام ابن القيم رحمه الله يقسم هذا الصنف الثاني إلى ثلاثة أقسام، ما هي؟ قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله، وذلك مأخوذ من قول الله في سورة فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:٣٢].
إذاً: الناس يتفاوتون في الطريق إلى الله، ظالم لنفسه، يعصي ويذنب ويرجع ويتوب، هذا هو حاله، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) إلا أنه لا يصر على المعصية، فهذا في رحمة الله بإذن الله.
الظالم لنفسه؛ فرط كثيراً في الزاد الذي يبلغه، والمقتصد زاده يبلغه إلى الطريق بالكاد، والسابق بالخيرات زاده كثير، وربحه وفير، هؤلاء هم الأبرار والمقربون، وهذه الأصناف جميعاً بإذن الله في رحمة الله جل وعلا، وإن كان العلماء كما ذكر ابن القيم قد اختلفوا في الظالم لنفسه على فرقتين: فهناك طائفة من العلماء قالت: إن الجنة للصنفين الآخرين، للمقتصد والسابق بالخيرات، أم الظالم لنفسه فإن غلبت حسناته سيئاته فهو من أهل الجنة، وإن غلبت سيئاته حسناته فهو من أهل النار، وصنف آخر قال: بأن الظالم لنفسه من الكفار، ولكن الإمام ابن القيم رجح مع طائفة من رجحوا بأن الأصناف الثلاثة في رحمة الله بإذن الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى قال في بداية الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢].
إذاً: هؤلاء جميعاً الذين وضعوا أيديهم وأرجلهم على الطريق بإذن الله هم جميعاً في جنة الله وفي رحمته.
ولقد ذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية ما ذكر الإمام ابن كثير أنه قال: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يحبسون في المحبس يوم القيامة ثم يتجاوز الله عنهم -نسأل الله أن نكون منهم! - وذكر الإمام الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: (((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)) [فاطر:٣٢] فقال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم لنفسه فيدخله الله الجنة برحمته) وفي رواية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم في الطبراني أيضاً، قال: (وأما الظالم لنفسه فيحبسه الله ويحاسبه فيظل في كرب وضيق وهم وبلاء، ثم بعد ذلك يتجاوز الله عنه، ويدخله الجنة برحمته).
وهنا أيها الأحباب أتذكر حديثاً للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وهو مروي عن عبد الله بن مسعود، بشراكم يا أمة الحبيب! بشراكم يا من وضعتم أرجلكم على الطريق! وبشراكم يا من عرفتم طريق الله! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آخر رجل من أمتي يدخل الجنة، رجل يمشي على الصراط مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة) وبعدما يتخطى الصراط -فيما معنى الحديث- ويعبر الصراط، وينجيه الله من نار جهنم، يلتفت إليها وينظر إلى حرها ونارها وهو يقول: تبارك الذي نجاني منكِ، ثم يقول: الحمد لله! والله لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين، وهو آخر الناس: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:١٨٥]، وهو آخر الناس، وقبله بزمان هناك من دخل بدون حساب، وهناك من دخل منذ زمن بعيد، ولكنه لما رأى النار وهول النار، يقول: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين.
وهنا حينما يعبر ويقترب من الجنة، يرفع الله له شجرة من شجر الجنة، شجرة يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (يمشي في ظلها الراكب خمسمائة سنة) شجر في الجنة غرسها الله بيديه لأوليائه، فيرفع الله له شجرة جميلة عظيمة، وهنا ينادي العبد على الله، ويقول: يا رب! فيقول الله عز وجل: ماذا تريد؟ فيقول العبد: يا رب! قربني من هذه الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ولقد كانت تسفعه النار، إلا أنه عنده من الأمان، يا رب! ادنني.
قربني من هذه الشجرة استظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل له: عبدي! يا ابن آدم! هل إن أعطيتكها وقربتك إلى هذه الشجرة لتستظل بظلها وتشرب من مائها، هل ستسأل شيئاً من ذلك؟ يقول: لا وعزتك، وماذا أسأل؟! لقد كنت سأقع في النار، وهأنت يا رب بفضلك ورحمتك نجيتني من النار، وهأنذا سأستظل بشجرة من شجر الجنة لا أسألك شيئاً بعدها يا رب.
فيقربه الله عز وجل منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، وبعد ذلك يرفع الله له شجرة ثانية هي أحسن من الأولى، وبنص الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه! وبعد فترة يقول له: يا رب! يقول له: نعم، يقول له: يا رب! قربني إلى هذه الشجرة الثانية -هذه جميلة جداً، وأحسن من الأولى بكثير- استظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: يا ابن آدم! ألم تعط العهود والمواثيق؟ يقول: شجرة اشتقت إليها، فيقربه الله عز وجل، فيستظل بظلها ويشرب من مائها.
ويمكث فترة، فيرفع الله له شجرة أخرى على باب الجنة، فينظر إليها فيشتاق، فيقول: يا رب! قربني إلى هذه الشجرة، وعزتك لن أسأل شيئاً بعد ذاك، فيقول: يا ابن آدم! ما أغدرك.
ألم تعط العهود والمواثيق على ألا تسأل غير الذي سألت؟ يقول: يا رب! وعزتك لن أسأل بعد ذلك شيئاً، فيقربه الله عز جل).
وهنا إذا ما اقترب إلى الشجرة الثالثة، التي هي على باب الجنة، ماذا يحدث؟ يستمع إلى أصوات أهل الجنة، وينظر إلى هذا النعيم المقيم الجنة، أنتم الآن في مجلس كله نقاء وكله حنان، فأنت في سعة وصدرك يتسع، فما بالك إن منّ الله عليك بمكان في بيتك كله سرور وكله راحة، لا شيء فيه يعكر عليك صفوك، تجلس في سعادة، فما بالك إن كنت في جنة الله جل وعلا، أو كما قال الشيخ الشعراوي بارك الله فيه، يقول حينما ذهب إلى قصر من قصور الضيافة في أمريكا، واستقبل في هذا القصر العجيب، وأخذ الناس من حوله يلتفتون إلى هذا البناء والمعمار والتشييد، فأراد الشيخ أن يلفتهم إيمانياً إلى الله، فقال لهم: أيها الناس! هذا إعداد البشر للبشر، فما بالكم بإعداد رب البشر، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولذلك لما وصفها علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
واعمل لدار غد رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري ريحقاً في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها
فمن أراد أن يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها
شجرة في الجنة على باب الجنة، يسمع أصوات أهل الجنة ونعيم أهل الجنة، فيقول: (يا رب! فيقول الله له: لبيك.
ماذا تريد؟ فيقول: يا رب! أدخلني الجنة، فيقول الله عز وجل: عبدي! فيقول: نعم يا رب! فيقول الله له: ما الذي يرضيك مني؟! عبدي! ألا تحب أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟! وهنا يقول العبد: يا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! وهنا ضحك عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن مسعود: لماذا لا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أضحك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حدث بهذا الحديث ضحك، فقالوا له: لم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة.
لأن العبد حينما يقول: يا رب، أتهزأ بي وأنت رب العالمين، يضحك الله منه، ويقول له: لا يا عبدي! لا أهزأ بك، ولكني على ما أشاء قادر).
فيا أيها الأحباب! اطمئنوا؛ فإن الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله كلهم في رحمة الله وجنة الله.
إذاً: فلتعلموا أن قصدي من هذا الكلام أن الناس متفاوتون، وأن الناس مختلفون، كلٌ على حسب فهمه، وكل على حسب عقله، وكل على حسب إيمانه، وكل على حسب طاعته، وكل على حسب قربه، فلا تختلفوا، ولا تتهموا هذا ولا ذاك، ولا تتحاقدوا ولا تتنابذوا: {