والله لقد مزق الخوف من النفاق قلوب السابقين الأولين، وهم من هم في الصدق والوفاء! مزق الخوف من النفاق قلوبهم، فهذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي قال في حقه المصطفى صلى الله عليه وسلم:(لقد أجرى الله الحق على لسان عمر وقلبه)، انظر إلى هذه الشهادة التي شهدها الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر! فهو الذي وصفه القرآن من فوق سبع سموات، ونزل القرآن من عند الله موافقاً لرأي عمر في أكثر من موضع، ويوم أن قام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي على رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول جذبه عمر بن الخطاب بثوبه، وقال: لا تصل عليه يا رسول الله! أنسيت ما صنع؟! لقد صنع كذا في يوم كذا، وكذا في يوم كذا، وجاذب عمر ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم فجذب رسول الله ثوبه وقال:(دعني يا عمر! فلقد خيرني الله جل وعلا بين أن أستغفر لهم أو لا أستغفر لهم) ثم صلى الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس النفاق، وينزل القرآن على الحبيب صلى الله عليه وسلم موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه، وهو قول الله جل وعلا:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة:٨٤]، فنزل القرآن موافقاً لرأي عمر، ويوم أن قال عمر برأيه في أسرى بدر نزل القرآن موافقاً أيضاً لرأي عمر.
ويوم أن نظر عمر إلى المنافقين وهم ينظرون إلى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وأخذته الغيرة، وقال لرسول الله:(احجب نساءك يا رسول الله! فإن المنافقين ينظرون إليهن) فنزلت آيات الحجاب، وحجب الرسول نساءه، وكم من الآيات والمواقف التي نزل فيها القرآن موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه؟ فـ عمر هو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وعمر هو الذي يقول في حقه رسول الله:(لو كان نبياً بعدي لكان عمر).
ويوم أن سمع عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر حذيفة بن اليمان -وهو أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأسماء المنافقين ذهب إلى حذيفة رضي الله عنه ويقول له:(نشدتك الله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في أسماء المنافقين؟).
عمر بن الخطاب يخشى ويخاف على نفسه النفاق، فقال:(نشدتك الله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في المنافقين؟ فيرد عليه حذيفة ويقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً) عمر مزق الخوف من النفاق قلبه وقلوب السابقين الصادقين، حتى أساءوا الظن بأنفسهم، وخشوا أن يكونوا من المنافقين، والعياذ بالله! ولقد ثبت في صحيح مسلم من حديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه أنه مر عليه الصديق يوماً فوجده يبكي، فسأله الصديق: لماذا تبكي يا حنظلة؟ فرد عليه حنظلة بقوله: نافق حنظلة يا أبا بكر! فقال: ومم ذاك؟ قال حنظلة: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين، حتى إذا ما عدنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج والصبية فنسينا كثيراً -أي: إذا عدنا إلى البيوت وتركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نسينا كثيراً من الخشوع والخضوع والبكاء والذل لله جل وعلا- فنظر الصديق رضي الله عنه إلى حنظلة وقال: وأنا أجد مثل ذلك.
فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل الحبيب حنظلة: وقال: (ما يبكيك يا حنظلة؟!)، فقال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله! فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما ذكره لـ أبي بكر فقال الحبيب عليه الصلاة والسلام: (لو تدومون على الحالة التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وعلى الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، أي: لو تدومون على هذا الحال من الخشوع والخضوع والذل والانكسار للكبير المتعال لأصبحتم كالملائكة، وبمعنى أدق: لصافحتكم الملائكة في مجالسكم، وفي الطرقات، ولكن ساعة وساعة.