وفي وسط هذا الذهول، والفزع، والرعب، والألم، ألمٌ نفسي وبدني، ألمٌ نفسي لما ستلاقيه من قومها، وألمٌ بدني لآلامٌ الطلق والوضع ولا سنيد لها ولا معين يساندها أو يعاونها، هذه الآلام المتلاحقة في وسطها يشق هذه الآلام ويشق هذا السكون، وهذا الجو صوتٌ جميلٌ ندي، إنه صوت الوليد الرضيع، إنه الطفل الذي ولد منذُ لحظات، لا أقول منذُ ساعات، وإنما أقول منذُ لحظات، وهنا مريم تتألم وتنظر بعينيها إلى السماء لتفكر في حقيقة أمرها، ومواجهة قومها، وحقيقة هذا الأمر، وفجأة تسمع صوتاً ندياً جميلاً:{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي}[مريم:٢٤].
لِمَ كل هذا الحزن؟! ولِمَ كل هذا الألم؟! ولِمَ كل هذا البكاء؟! {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا}[مريم:٢٤] قيل بأن المنادي هو جبريل وقيل هو عيسى، ولكن الأرجح أن النداء كان من عيسى؛ لأن عيسى تكلم وهو صبيٌ طفلٌ صغيرٌ رضيع:{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي}[مريم:٢٤] لا تحزني والله معك!! لا تحزني والله راعيك!! لا تحزني والله حافظك!! لا تحزني فإن الذي قدر لك هذا هو الله!! لا تحزني، لا تخافي؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه فلا ينبغي له أن يحزن، ولا ينبغي له أن يخاف أو يضطرب أو يفكر لا تحزني، لا تخافي:{قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}[مريم:٢٤] فجر الله لها عيناً من الماء العذب الفرات في هذه الصحراء، نظرت ووجدت عين ماء تحت هذا الطفل الصغير، جدولاً كما ورد فيما رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين البخاري ومسلم: (فجر الله لها جدولاً صغيراً من الماء).
{َلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}[مريم:٢٤] سرياً: أي جدولاً أو نهراً صغيراً من الماء: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}[مريم:٢٥] فكلي من هذا الرطب، واشربي من هذا الماء وقري عيناً، لا تحزني، هذا هو وعد الله للمتقين، هذا هو عهد الله على ذاته للمؤمنين، حقٌ على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته، حقٌ على الله لمن اتقاه أن يستره الله فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض.
{َلَّا تَحْزَنِي}[مريم:٢٤] وهنا أتذكر هذا المشهد المماثل تماماً بتمام، يوم أن ذهب إبراهيم الخليل مع ولده إسماعيل وأمه هاجر عليهم السلام وذهب بهما إلى مكانٍ لا زرع فيه ولا نبات، ولا إنس فيه ولا حياة، وترك الولد والأم وقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}[إبراهيم:٣٧] وتركهما الخليل وأراد أن ينصرف، فنظرت إليه هاجر وقالت: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟! إلى من تكلنا في هذا المكان الذي لا أنس فيه ولا زرع فيه ولا سبب من أسباب الحياة؟! وإبراهيم لا ينطق ولا يتكلم كلما كلمته هاجر، وأخيراً نظر إبراهيم إلى السماء، مشيراً أن الذي أمره بذلك هو الله، فقالت هاجر: آلله أمرك بهذا، فأشار برأسه أن نعم، أي أن الذي أمرني بذلك هو الله، فنظرت إليه هاجر قائلةً: إذا فاذهب، فإنه لن يضيعنا أبداً.
طالما أن الله هو الذي أمرك فلن يضيعنا الله أبداً.
يقول عيسى لمريم:{َلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}[مريم:٢٤] ثم قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}[مريم:٢٥ - ٢٦].