[وقفات مع بعض الابتلاءات التي وقع فيها يوسف عليه السلام]
الحمد لله رب العالمين، الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:٦٢].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله -أيها الأحبة- وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا دائماً وأبداً في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيءٍ قدير.
أحبتي في الله: كان من المنتظر في هذه الليلة أن نواصل حديثنا عن مشاهد يوم القيامة، ولكن تلبيةً لرغبة شيخنا الحبيب أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المحيسني حفظه الله، فإن لقاءنا في هذه الليلة الكريمة المباركة مع سورةٍ كريمةٍ مباركة، مع سورة يوسف.
وسورة يوسف سورةٌ مكيةٌ باتفاق العلماء، ونزلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم في فترةٍ من أحرج فترات الدعوة، فلقد نزلت سورة يوسف على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة -شرفها الله- بعد موت أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، وأنتم تعلمون جميعاً دور أبي طالب ودور خديجة في نصرة الإسلام، والوقوف إلى جوار النبي عليه الصلاة والسلام، علماً بأن أبا طالب كان على الشرك وعلى دين قومه حينئذٍ، ومات على ذلك نزلت سورة يوسف في هذه الظروف الحرجة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتعرض لأشد أصناف العذاب والبلاء والاضطهاد من أهل مكة، وهنا أنزل الله جل وعلا عليه سورة يوسف ليقص عليه ربه جل وعلا قصة أخٍ كريمٍ تعرض لجميع أصناف المحن والفتن والابتلاءات؛ ليثبت الله بهذه القصص قلب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأود أن أشير إشارةً سريعةً إلى أن هناك فرقاً شاسعاً بين القَصَصِ والقِصَصْ.
فإن القَصَصَ: بالفتح هو كلام الحق جل وعلا، لأن هذا هو القصص الحق.
أما القِصص: فهي من نسج خيال الكتاب والأدباء، التي يختلط فيها الحق بالباطل والحلال بالحرام والفضيلة مع الرذيلة.
نزلت قصة يوسف ليثبت الله بها فؤاد حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:٣٢] ليقص ربه جل وعلا عليه قصة أخيه الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم؛ إنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
ويقص الله فيها على حبيبه المصطفى صوراً من الفتن والمحن والابتلاءات التي تعرض لها يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وعدوا معي -أيها الأحباب- هذه الفتن التي تعرض لها نبيٌ من أنبياء الله جل وعلا: أولاً: محنة كيد الإخوة وحقدهم عليه.
ثانياً: محنة الجب وفراق أهله وأحبابه.
ثالثاً: محنة الرق وبيعه كسلعةٍ تتداول بين الأيدي بأبخس الأثمان.
رابعاً: محنة الشهوة والفتنة والإغراء وكيد النسوة وعلى رأسهن امرأة العزيز.
خامساً: محنة السجن بعد العيش الرغيد الرافه في قصر العزيز.
سادساً: محنة الملك والرخاء والسلطان، بعد ما صار قوت الناس وخبزهم بين يديه يتحكم فيه كيف شاء.
سابعاً: محنة لقائه بإخوته بعد قدرته عليهم.
ومع كل هذا اجتاز يوسف عليه السلام هذه المحن كلها بقوةٍ واقتدارٍ وجدارة، وخرج يوسف منها خالصاً متجرداً بدينه وإيمانه لم يخدش قط.
ومع كل هذا، ومع هذا الانتصار المدوي لا يتمنى يوسف بعد هذا إلا أن يتوفاه الله مسلماً، وأن يلحقه الله جل وعلا بالصالحين {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:١٠١].