علينا أن نتدبر جميعاً؛ لكي نتعرف على نعيم آخر رجل يدخل الجنة؛ ليتضح لنا بعد ذلك نعيم أهل الدرجات العلى.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(سأل موسى بن عمران -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- ربه جل وعلا وقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله جل وعلا: يا موسى! ذلك رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ -يعني: ينطلق فيخيل إليه من كثرة أهل الجنة أن الجنة قد امتلأت، ولم يعد له مكان بين أهلها- فيقول الله جل وعلا: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول العبد: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول العبد في الخامسة: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب جل وعلا: لك ذلك وعشرة أمثاله معه، ولك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك).
الله أكبر! هذه منزلة أدنى رجل في الجنة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال للرجل: تمن -أي: اطلب ما شئت وتمن- فيتمنى، فيقول الله عز وجل له: تمن، فيتمنى، فيقول الله سبحانه: لك ما تمنيت ومثله معه).
هذا هو أدنى أهل الجنة منزلاً، فكيف يكون حال آخر رجل يدخل الجنة؟ في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي مرة -أي: على الصراط- ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، حتى إذا ما نجاه الله وعبر الصراط، التفت إلى النار من خلفه وقال: تبارك الذي نجاني منك، الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين -ولمَ لا وربنا جل وعلا يقول:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:١٨٥]؟! -يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فترفع له شجرة من شجر الجنة، فإذا رآها العبد قال: أي رب! أدنني من هذه الشجرة -أي: قربني إليها- لأستظل بظلها، ولأشرب من مائها، فيقول الله جل وعلا: فهل لو أدنيتك منها ستسألني غيرها؟ يقول: لا، لا أسألك غيرها -وهل بعد هذا النعيم من نعيم؟ - فيقربه الله منها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، ثم ترفع له شجرة -أي: ثانية- هي أحسن من الأولى، فيقول العبد: أي رب! أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها ولأشرب من مائها، فيقول الرب جل وعلا: يا بن آدم! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك! لا أسألك غيرها، فيقول الله جل وعلا: فهل لو قربتك منها ستسألني غيرها؟ يقول: لا، لا أسألك غيرها، فيقربه الله جل وعلا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، يقول الحبيب: ثم ترفع له شجرة -أي: ثالثة- عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فإذا ما رآها وسمع قال: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، وعزتك لا أسألك غير هذه، فيقول الله: ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت، فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها: فيقربه الله منها، فإذا ما اقترب منها وسمع أصوات أهل الجنة يقول: أي رب! أدخلني الجنة!! فيقول الرب: يا بن آدم! ما يرضيك مني؟ - أي: أي شيء يرضيك؟ - أيرضيك أن تكون لك الدنيا ومثلها معها، فيقول العبد: أتهزأ مني وأنت رب العالمين؟!! وهنا ضحك ابن مسعود، وقال لأصحابه: لمَ لا تسألونني: ممَ أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا ابن مسعود؟! قال: أضحك لضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد ضحك النبي، فسئل: ممَ تضحك يا رسول الله؟! قال: أضحك من ضحك رب العزة، فإن العبد لما قال للرب: أتهزأ مني وأنت رب العالمين، يضحك الرب جل وعلا من عبده ويقول: لا أستهزئ منك، ولكني على ما شاء قادر).
هذا هو آخر رجل يدخل الجنة.
وأقول: الضحك صفة من صفات الحق جل وعلا، يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت في النص النبوي، من غير تحريف للفظها أو لمعناها، ومن غير تعطيل أو تكييف أو تمثيل، قال سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:١١]، فكل ما ببالك فالله بخلاف ذلك، جل الله عن الشبيه وعن النظير وعن المثيل، فلا ند له، ولا كفء له، ولا ولد له، ولا شبيه له، كما قال سبحانه:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:١ - ٤].