[خطر الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع]
ثانياً: خطر الذنوب والمعاصي: الذنوب إن انتشرت واستشرت ربما يعم العذاب والعقاب، ويهلك الصالحون مع الطالحين، ثم يبعث بعد ذلك كل واحد على نيته، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، لكن سيهلك الجميع.
فما الذي أخرج آدم من الجنة؟ وما الذي أهلك قوم نوح؟ وما الذي أهلك قوم إبراهيم؟ وما الذي أهلك قوم عاد؟ وما الذي أهلك ثمود؟ وما الذي أهلك قوم لوط؟ وما الذي أهلك فرعون وجنده؟ وما الذي أهلك الظالمين في كل زمان ومكان؟ الجواب في كلمة واحدة: إنها المعصية، إنها الذنوب على تفاوتها، ابتداءً بالشرك وانتهاءً بأقل ذنب أو معصية ترتكب في حق الله جل وعلا، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]، وقال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:٤٥]، والآيات في هذا الباب كثيرة، فلا ينزل أي بلاء إلا بذنب، ولا يرفع أي بلاء إلا بتوبة.
وتدبروا هذا الحديث الذي رواه البيهقي في السنن، والحاكم في المستدرك بسند صحيح، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)، وأنا أقسم بالله أن الفاحشة قد أعلنت، بل إن من المسلمين الآن من يقضي الليل كله لمشاهدة الفاحشة، لقد دخلت صور الفاحشة غرف النوم، وقام كثير من المسلمين الليل بطوله لا بين يدي الله جل وعلا، بل لمشاهدة الأفلام الفاضحة الداعرة.
ثم والله! لقد كنت مع الشيخ محمد صفوت نور الدين -أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة- في أمريكا، وكنا نمشي سوياً بعد صلاة العصر قبيل المغرب إلى مركز إسلامي، فوالله الذي لا إله غيره! لقد رأينا بأعيننا شاباً يزني بفتاة على الطريق، فقلت: سبحان الله! صدق المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى.
وحين كنت في ألمانيا في زيارتي الأخيرة دخلت فتاة ألمانية لتعلن إسلامها، وأنا في كل مرة أحب أن أتعرف على سبب إسلام كل من دخل علينا في إحدى هذه المراكز ليعلن إسلامه، فقلت: يا أختاه! أود أن أتعرف على سبب دخولك في الإسلام، فقصت هذه الفتاة الألمانية التي لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها قصة عجيبة، قالت: كنت في سفر في هولندا، فرأيت حلقة كبيرة من الناس، وسمعت صراخاً وتصفيقاً إلى غير ذلك، تقول: اقتربت فنظرت وسط هذه الحلقة، فوجدت -والعياذ بالله- رجلاً يزني بامرأة، والناس تصفق له! إنه مشهد بهيمي قذر، وهؤلاء ما زالوا إلى يومنا هذا يعزفون على وتر التقديس والتمجيد للحرية والديمقراطية المشئومة المزعومة، ويدَّعون أنهم أصحاب حضارة، وهي حضارة عفنة نتنة تعفنت روحها، ويفعل فيها الإنسان بالإنسان ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات.
تقول: فاتصلت على صديقة لي ألمانية مسلمة وقلت لها: هل يمكن أن يزنى رجل بامرأة في الإسلام وتقبل أن يراها الناس؟ قالت: أعوذ بالله! بل يحرم على الرجل أن يجامع امرأته أمام أولاده.
إنه جواب يسير جميل من امرأة ألمانية لا تحسن أن تتكلم بالدليل، ولكن كلامها منضبط، فهذه الفتاة الأولى تقول: فدخل حب الإسلام قلبي، وعلمت أنه دين العفة.
هذه قيمة ربما لا تخطر لنا على بال، نعم؛ إنه دين العفاف، إنه دين الطهارة، إنه دين النقاء، إنه دين حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:٩٠].
قال صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)، فقد ظهر الإيدز، وهو مرض نقص المناعة، ظهر بصورة بشعة مروعة، وظهر السيلان، وظهرت الكلاميديا، وكلها أمراض تتعلق بهذا التجاوز الواضح لحدود الله جل وعلا، بل ينفق الشرق والغرب الآن مليارات ضخمة لمحاصرة هذا المرض، لكنهم إلى الآن ما استطاعوا، مع أن النبي الصادق قد حدد المخرج من هذه الأمراض الفتاكة منذ أربعة عشر قرناً، حين دل الأمة على الطهارة، وحرم عليها الزنا.
قال صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان).
لقد وقع تطفيف المكيال والميزان من كثير من الناس، فوقعوا في الضنك والضيق وجور السلاطين، (ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً فأخذ بعض ما في أيديهم)، صلى الله على من لا ينطق عن الهوى، لقد ضاعت الأندلس، والقدس الآن في أيدي اليهود، وكذلك العراق، والشيشان، واحتلت الأرض، وأخذ الأعداء بعض ما في أيدينا، بل تحولت الأمة إلى قصعة مستباحة لأقذر وأنجس وأسفل أمم الأرض، وصدق فيها قول الصادق كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها).
فهل تذكر القصعة؟ وهل تذكر طبق الطعام الذي تقدمه كل صباح لمجموعة من الطيور أو الدواجن في بيتك؟ وهل تتصور وتتذكر هذا المشهد وأنت تقدم الطبق بعد ليل طويل، وترى الطيور تتقاذف وتتطاير من أجل أن يصيب كل طائر حظه من هذه القصعة؟ إنه تشيبه نبوي بليغ لما عليه الأمة الآن: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذٍ كثير -مليار وثلث-، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويقذف في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة- ورضيتم بالرزع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
قال صلى الله عليه وسلم: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم) آه! لقد استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥].
قال ابن القيم في كلام نفيس قلما تقف عليه لغيره: تحكيم رسول الله في كل أمر إسلام، وعدم وجود الحرج في الصدر من حكمه مقام إيمان، والرضا بحكمه مقام إحسان.
قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:٣٦]، وقال جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:٥١ - ٥٢]، وقال في شأن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:٦٠ - ٦١] فشعار المؤمن: حب الله ورسوله، والسمع بلا تردد، والطاعة بلا انحراف والتواء، وشعار المنافق: السمع والإعراض، والسمع والصد عن دين الله جل وعلا.
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قال الصحابة والألى تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام الغالي صدوك عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان بالأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والزور تلك حكومة الضلال قال جل وعلا: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:٢٦].
هذا هو خطر الذنوب، فوالله ما وقعنا في هذا الذل والمهانة إلا بسبب الذنوب.