[مثال يبين تحقق وعد الله لمن حققوا الإيمان]
أيها الأحباب! بهذا الإيمان تحول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، واسمحوا لي أن أكرر هذه اللفظة، وأقول: بهذا الإيمان تحول الصحابة من أفراد مجهولين تماماً لا ذكر لهم ولا كرامة في أرض الجزيرة؛ تحولوا من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم! والله ما عرفنا شيئاً عن أبي بكر قبل الإيمان، والله ما عرفنا عمر بن الخطاب قبل الإيمان، والله ما عرفنا خالد بن الوليد قبل الإيمان، والله ما عرفنا هؤلاء الأطهار إلا يوم أن تخرجوا من جامعة الإيمان على يد المربي الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا.
وسأضرب لحضراتكم مثالاً واحداً فقط لاستعلاء هذا الإيمان في قلوب هؤلاء الصادقين، لنقف على حجم الهوة السحيقة، بين إيماننا وبين إيمان سلفنا رضوان الله عليهم، أسأل الله أن يلحقنا بهم على الخير والطاعة.
هاهو ربعي بن عامر جندي ضعيف البنية، قصير القامة، قوي الإيمان، لما هزمت جيوش كسرى أمام جيوش التوحيد بقيادة سعد بن أبي وقاص قال كسرى: لأرمين المسلمين بقائدي الذي ادخرته ليوم الكريهة، وكان قائده هذا الذي كان يربى كما تربى العجول والبهائم هو رستم.
وتولى رستم قيادة الجيوش الكسروية، وهزمت الجيوش الكسروية بقيادة رستم، أمام جحافل الإيمان وأبطال التوحيد، بقيادة خال النبي سعد بن أبي وقاص، فأرسل رستم رسالة إلى القائد سعد: أن أرسل إلينا رسولاً من قبلك لنسمع منكم ولتسمعوا منا، وليفاوضنا ولنفاوضكم.
فاختار سعد بن أبي وقاص ربعي بن عامر رضي الله عن ربعي أقول لكم: إن كتب التاريخ، وإن كتب السير تصف ربعي بن عامر بأنه كان قصير القامة، ضعيف البنية، لكنه كان قوي الإيمان.
فركب فرسه، وانطلق بثياب متواضعة جداً، فأرادوا أن يمنعوه حتى لا يدخل على سيدهم رستم وهو على ظهر جواده، وطلبوا منه أن يترجل -يعني: أن يمشي على رجليه- فأبى، وقال: أنا لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فسمعه رستم فقال: ائذنوا له، فدخل ربعي على ظهر جواده.
تقول بعض الروايات: إنه ربط فرسه في رجل الكرسي الذي جلس عليه رستم، ومشى استعلاء في موطن يحب الله فيه الخيلاء والفخر -وشتان بين استعلاء المؤمنين واستعلاء المتكبرين- فمشى ربعي يتكئ برمحه على الفرش لا ليمزق الفرش، بل ليمزق قلب رستم، فصرخ فيه رستم: من أنتم؟! فقال: ربعي: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس بدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.
قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات منا، والنصر لمن بقي من إخواننا.
فقال رستم: سمعت قولك، فهل لكم أن تؤجلونا لننظر في أمرنا ولتنظروا في أمركم؟ قال ربعي: لقد سن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن لا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر لنفسك واحدة من ثلاث انظروا إلى العزة.
قال رستم: وما هي؟! قال ربعي الأولى: الإسلام ونرجع عنك.
قال رستم وما الثانية؟ قال ربعي: الجزية، وإن احتجت إلينا نصرناك! الجزية التي تدفعها الأمة الآن كاملة غير منقوصة: آهٍ يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الد نيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال، ولن نبدأك بالقتال فيما بيننا وبين اليوم الثالث إلا إن بدأتنا أنت.
فقال رستم: أسيدهم أنت؟ يعني: هل أنت قائدهم الذي تصدر الأوامر وتخطط وتتكلم بهذه الثقة؟ قال: لا، ولكن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم.
بهذا الإيمان سادوا بهذا الإيمان قادوا بهذا الإيمان تحولوا من رعاة في الجزيرة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، ولن ولن ولن -أكررها ثلاثاً- لن تتحقق النصرة والعزة والتمكين والاستقلال إلا إذا حققت الأمة الإيمان؛ لأن الله قد وعد بالنصرة والعزة والاستخلاف والتمكين للمؤمنين، والإيمان ليس مجرد كلمة: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:٤٧]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:٨]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٥] إلى آخر الآية.
العزة والتمكين والنصر للمؤمنين، فكن على يقين بأن القلة المؤمنة التي تستحق النصرة والعزة والتمكين لا توجد بعد، فالإيمان ليس كلمة فحسب؛ بل قول وتصديق وعمل.
انظر إلى واقع الإيمان في الأمة الآن، كم من أناس ينتسبون الآن إلى الإسلام لا يصلون، ويتعاملون بالربا، ويعاقرون الزنا.
غيبت الشريعة ونحي القرآن، ووثقت الأمة الآن في أمريكا أو في بعض دول الأرض أكثر من ثقتها في خالق السماء والأرض، فالأمة تحتاج إلى أن تصحح وتحقق وتجدد الإيمان الذي به فقط تصبح الأمة أهلاً للنصرة والعزة، وأهلاً للاستخلاف والتمكين، وإلا فبدون الإيمان لن نرى شيئاً من هذا؛ لأن الله وعد بالنصرة والعزة والاستخلاف والتمكين للمؤمنين، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإيمان الصادق، وأن يرد الأمة إلى الإيمان رداً جميلاً.
وأخيراً: أيها الحبيب الكريم! فضل الاستقامة أي: على هذا الإيمان، وعلى هذه الثوابت، وأرجئ الحديث عنها إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.