[موعظة أبي حازم لسليمان بن عبد الملك]
سأل سليمان بن عبد الملك عالماً من علماء السلف يقال له: أبو حازم، قال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟! وبعض الناس الآن ربما يتضجر إن ذُكِّر بالموت، وربما يقول لمذكره: ذكرنا بموضوع آخر، وهل ما وجدت إلا الموت لتذكرنا به؟! فقال سليمان بن عبد الملك لـ أبى حازم: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال أبو حازم: لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب! في زيارة لي إلى أمريكا نبهني أحد الإخوة إلى رجل منَّ الله عليه بالأموال، ومع ذلك لا يصلي ولا يعرف حقاً للكبير المتعال، فذهبت إليه لأذكره بالله جل وعلا، وهو مسلم عربي وليس أمريكياً، فقال لي: يا أخي! أنا ما أتيت إلى هذه البلاد إلا من أجل الدولار، وأعدك إن عدتُ إلى بلدي ألا أفارق المسجد أبداً! قلت: سبحان الله! ومن يضمن لك يا مسكين أن ترجع إلى بلدك، ومن يضمن لك أن يمر عليك يومُ بكامله، والله! لا تضمن أن تتنفس بعد هذه اللحظات.
فدع عنك ما قد فات من زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب! لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب دنياك مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
فقال سليمان بن عبد الملك: يا أبا حازم! كيف حالنا عند الله تعالى؟! قال: اعرض نفسك على كتاب الله.
قال سليمان: أين أجده؟ قال: في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:١٣ - ١٤].
قال سليمان بن عبد الملك: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟! قال أبو حازم: إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين.
فقال سليمان بن عبد الملك: فكيف عرضنا على الله غداً؟ فقال أبو حازم: أما المحسن فكالغائب في سفر يقدم على أهله، فيستقبله الأهل بفرح، والمسيء كالعبد الآبق يقدم على مولاه.
وفي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت، قال: لا يا عائشة! ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه، كره لقاء الله وكره الله لقاءه).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعت الجنازة وحملها الرجال على الأعناق تكلمت، وسمعها كل شيء إلا الإنسان، إن كانت صالحة: قدموني قدموني! وإذا كانت غير صالحة تقول: يا ويلها! إلى أين يذهبون بها؟ ولو سمعها الإنسان لصعق)، إي والله! لو سمعت جنازة تقول: قدموني قدموني، وسمعت جنازة أخرى لحبيب لك تقول: يا ويلها! إلى أين تذهبون بها؟ لصعقت.
والحديث عن النفس حديث طويل ومكروه، فإنما هي آية ثابتة، وإنما هي أحاديث ثابتة نذكر بها كلما أردنا أن نذكر الآخرين -وأنفسنا قبل الآخرين- بالموت، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكر الموت لنستعد للقاء الله جل وعلا.
أيها اللاهي! أيها الشاب! أيها الكبير! أيها الصغير! أيها الوزير! أيها الأمير! أيها الصغير! أيها الحقير، ذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيلُ وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس! لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.