[الحق الثالث: التناصح]
روى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة -انظروا إلى هذه البلاغة النبوية- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
يا أخي! أنا لست ملكاً ولا نبياً، أنا بشر وكل بني آدم خطَّاء، فمن حقي عليك إن أخطأتُ أنا أن تنصحني، وأن تقترب مني وأن تبذل لي النصيحة، لا أن تظل بعيداً عني لتصدر الأحكام عليَّ بالتكفير أو التفسيق أو التبديع، وإنما ادن مني واقترب، وابذل الحق الذي عليك لي، وانصحني بشروط النصيحة وآدابها، بتواضع، بحكمة، برحمة، بأدب، بخلق.
وأرجو من شبابنا وطلابنا أن يفرقوا بين مقام الدعوة ومقام الجهاد، فمقام الدعوة -أيها الأحبة- من الألف إلى الياء، ولو كانت الدعوة لأكثر أهل الأرض.
مقام الدعوة: الحكمة والرحمة واللين والتواضع، هذه آداب النصيحة، قال الله عز وجل لإمام الدعاة وسيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥] ما هي الحكمة؟ قال ابن القيم: الحكمة هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، وأركانها: العلم والحلم والأناة، وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الجهل والطيش والعجلة.
بحكمة ورحمة قال الله لسيد الدعاة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] يا أخي! انصحني برحمة، لا تكن غليظاً ولا شديداً عليَّ، أسمع أحد إخواننا ينصح مسلماً وهو بعد أن سمع الأذان، وإذا بالأخ يريد أن ينصح أخاه بالصلاة فيقول له: صلي يا حمار، فسمعت الكلمة واقتربت منه، قلت: يا أخي! إن الله لم يفرض الصلاة على الحمير، ففطن.
إذاً: هذه ليست دعوة، وليست نصيحة، انصح أخاك برحمة، أشعر من تنصحه أنك رحيمٌ به حليمٌ تخشى عليه، وهذا من حقه عليك.
يأتي شابٌ للنبي عليه الصلاة والسلام والحديث في مسند أحمد بسندٍ جيد، ويستأذن رسول الله -والله ما استأذنه للخروج إلى الجهاد ولا البذل ولا الخروج إلى الدعوة- وإنما جاء ليستأذن النبي في الزنا: (أتأذن لي يا رسول الله! في الزنا؟ فقال الصحابة: مه مه! فقال له: ادن -اقترب- وبلغة نبوية رحيمة، يقول له المصطفى المعلم والمربي والأسوة والقدوة: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟ لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس) ومع ذلك رفع النبي يده ووضعها على صدر هذا الشاب ودعا له، الذي جاء يطلب الزنا دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم اشرح صدره، واغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) فانطلق الشاب ولا يوجد شيءٌ على الأرض أبغض إليه من الزنا، والأدلة النبوية العملية على الرحمة كثيرة.
ثم اللين: كن ليناً بمن تنصحه، هل رأيتم يا إخوة طبيباً فتح عيادته الخاصة للمرضى، حتى إذا دخل عليه مريض طرده؛ لأنه مريض؟ هو ما فتحها إلا للمرضى، فأنتم يا من منَّ الله عليكم بالسنة، والعقيدة الصافية، والفهم الراقي، أنتم أطباء لمرضى القلوب، والنفوس، ولمن انحرفوا عن الحق والمنهج، افتحوا قلوبكم وصدوركم إلى إخوانكم قبل أن تفتحوا مساجدكم وبيوتكم ومجالسكم، وابذلوا لهم النصيحة بهذه الضوابط والشروط، إن الله يأمر موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:٤٣ - ٤٤] قرأ سيدنا قتادة هذه الآية وقال: يا رب! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:٢٤] أن يقولا له قولاً ليناً؟ فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:٢٤] فكيف حلمك بعبدٍ قال: ((سبحان ربي الأعلى))؟ وأنا أقول: إن الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، والحديث في صحيح مسلم، مرت بغيٌ من بغايا بني اسرائيل على كلبٍ يلهث الثرى من العطش، فعادت إلى بئر ماء فملأت خفها بالماء وقدمته للكلب فشرب، يقول النبي: (فغفر الله لها بذلك).
أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ النصيحة والتناصح، بأدب وتواضع وحكمة ورحمة ولين، إن وجدت أخاك على خطأ ادن منه واقترب، وقل له: أخي! أحبك والله في الله، قال الله كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.