[الإيمان بالله تعالى ضرورة عقلية]
وأخلص من هذه الكلمات الدقيقة المهمة إلى هذه الحقيقة الكبيرة ألا وهي: أن الإيمان بالله تبارك وتعالى ليس غريزة فطرية فحسب، ولكنه ضرورة عقلية أيضاً، وبدون هذا الإيمان سيظل هذا السؤال يحتاج إلى جواب.
ذلكم هو السؤال الخالد فى قول الله تبارك وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:٣٥ - ٣٦].
وسيظل هذا السؤال مطروحاً يحتاج إلى جواب من هؤلاء المعاندين،
و
الجواب
لا يقول عاقل بأنه خُلق من غير شيء.
والسؤال الثاني: فهل خلقوا أنفسهم؟ والجواب: لا، ولم يزعم عاقل على وجه الأرض على طول التاريخ أنه خلق نفسه أو خلق الأرض أو خلق السماوات، فيبقى السؤال مطروحاً ويحتاج إلى جواب من كل عاقل منصف على وجه الأرض: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:٣٥ - ٣٦] فهم يقولون ببساطة شديدة في مصير هذا الإنسان بعد رحلة هذه الحياة الدنيا: إنه الفناء والعدم المطلق، أي: أن الأرض تطويه في بطنها كما طوت ملايين الحيوانات الأخرى، ثم تعيد هذا الجسد مرة أخرى إلى عناصره الأولى فيعود تراباً ثم تذروه الرياح، وهكذا!! هذه هي قصة الحياة عند هؤلاء الماديين الظالمين، فهم يقولون: أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا جزاء ولا حساب، ولا نعيم ولا عذاب!! ويستوي في ذلك عند هؤلاء من أحسن غاية الإحسان ومن أساء غاية الإساءة!! ويستوي في ذلك من عاش عمره للناس على حساب شهواته، ومن عاش عمره لشهواته على حساب الناس!! ويستوي في ذلك من ضحى بحياته في سبيل الحق ومن ضحى بالحق فى سبيل حياته!! ويستوي في ذلك من اعتدى على حياة الآخرين فى سبيل الباطل ومن عاش من أجل أن يرد وأن يدفع الباطل!! ويستوي في ذلك من عبد الله وحده لا شريك له ومن عبد آلهة أخرى باطلة مدعاة!! ويستوي في ذلك الموحدون والمشركون!! ويستوي في ذلك الظالمون والمظلومون!! ويستوي في ذلك القاهرون والمقهورون والمعذبون والمعذبَون!! وكل هذا ظلم، فأما المؤمن الذي مَنَّ الله عليه بالإيمان، وكرمه بالقرآن، وبرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يتلعثم في الجواب طرفة عين، فالمؤمن يعرف مصيره، ويعرف إلى أين يسير، فهو يؤمن بقول الملك القدير: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:٧]، وشتان بين مادي ملحد وبين مؤمن يعرف أن الله عز وجل هو العدل وهو الحق، فالمؤمنون يعلمون أنهم خلقوا لحياة الخلود ودار البقاء، وهم في هذه الحياة الدنيا إنما يستصلحون وينقون، ويهذبون، ويعدون في هذه الدار إعداداً ليؤهلهم للعيش في دار البقاء؛ ليطيبهم الله تبارك وتعالى، وليكونوا أهلاً لدار طيبة، وليكونوا أهلاً لسلام الملائكة عليهم إذا دخلوا جنة ربهم جل وعلا، بأن يقولوا لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:٧٣].
إنه لعسير على العقل السوي أن يؤمن بخالق عليم حكيم عظيم أحسن هذا الكون خلقاً وصنعاً، وقدر فيه كل شيء تقديراً بحكمة، ووضع كل شيء في هذا الكون بميزان وحساب، ثم بعد كل ذلك يؤمن بأن سوق الحياة سينفض بالموت، وقد سرق فيه من سرق، ونهب من هب، وكفر من كفر، وظلم من ظلم، وأساء من أساء، واعتدى من اعتدى، ثم لا يقف بعد ذلك هؤلاء جميعاً بين يدى الله تبارك وتعالى ليقتص للمظلوم من الظالم، وليثيب الموحد على توحيده، والعابد على عبادته، لا يصدق عقل سوي مثل هذا أبداً، وما أروع كلام الله سبحانه وتعالى حيث قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦].
وما أروع قول الله تبارك وتعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:٣٦].
يعني: مهملاً لا سؤال ولا حساب ولا عقاب، كلا! وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:٢١].
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:٢٧ - ٢٨]، فهذا محال يا أخي! وهذا ظلم يستحيل على الله الحق العدل سبحانه وتعالى.
وقال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:٣٩ - ٤٠].
ولا يمكن أبداً أن تنتهي الحياة إلى الموت أو عند الموت، ولا أن السارق سرق وانتهى، والظالم ظلم وراح، وظلم من ظلم دون أن ينتصر له، كل ذلك ليس صحيحاً.
من ألطف وأجمل ما قرأت الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الجامع وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه من مهاجري الحبشة عن أعجب ما رأوا بأرض الحبشة فقال: (حدثُوِنى بَأَعَاجِيبِ مَا رَأَيُتم بِأَرضِ الحَشَبةِ؟ فقال أحدهم: رأيت امرأة عجوزاً تحمل جرة ماء على رأسها، فجاء شاب فدفعها في ظهرها بين كتفيها من الخلف دفعة فأوقعها على الأرض، فخرت على ركبتيها وقد انكسرت جرتها أو قلتها، فلما استوت المرأة على الأرض نظرت إلى هذا الشاب وقالت: سوف تعلم يا غدر! أي: يا غادر! يا ظالم! - إذا وضع الله الكرسي يوم القيامة واقتص للمظلوم من الظالم، سوف تعلم مكاني ومكانك عنده غداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت صدقت! لا يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من قويهم).
فانظروا إلى فطرة هذه المرأة، وكيف أبرزت مشهداً من أعظم مشاهد يوم القيامة، ألا وهو مشهد الحساب، ومشهد الميزان، ومشهد الحق، نعم إنه مشهد حق، فسوف يعلم الظالم إذا وضع الله الكرسي يوم القيامة واقتص للمظلوم من الظالم أنه لابد من قصاص.
أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائماً بين الأنام أيها الظالمون! اظلموا فإنا متظلمون، وإنا إلى الله شاكون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فلا بد من وقفة يقف فيها الجميع بين يدي الله تبارك وتعالى، ليجازي الله كل واحد بعمله، كما قال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨].
وقال سبحانه: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٣ - ١٤]، فالمؤمن يعرف المسير، ويعرف المصير، ويعرف أن المؤمنين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وأن الكافرين إلى نار، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنان، وأن يحرمنا على النيران؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.