للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هل يسب الصديق؟!]

هل يسب الصديق؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! هل يسب أبو بكر؟! رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأطوار، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأسفار، وضجيع النبي صلى الله عليه وسلم في الروضة المحفوفة بالأنوار، الممدوح في الذكر بقوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:٤٠]، أيسب الصديق؟! إنه أمر ينخلع له القلب، والله إنها لمرارة وغصة في الحلق أن يسب صديق الأمة في زمان الفتن، في زمان الشبهات والشهوات، على مرأى ومسمع، وفي الكتب، بل وعلى صفحات الجرائد والمجلات.

يسب الصديق رضوان الله عليه وأرضاه ذلكم العملاق الكبير، الذي لو اجتمع أهل الأرض ليمدحوه ما رفعوا من قدره، وما أعلوا شأنه، وإنما رفعوا من قدر أنفسهم، وأعلوا من شأنهم، وهم يتحدثون عن صديق الأمة، عن الرجل الذي لم يتلعثم في إيمانه طرفة عين، بل كان شعار الصديق إذا تشككت الصدور، وتلعثمت الكلمات في الصدور: (إن كان محمد قد قال ذلك فقد صدق) كلمة عجيبة، ميزان دقيق، يثبت يقين الرجل وإيمانه، الرسول قال كذا، إذاً انتهى الأمر، محمد صادق! (إن كان محمد قد قال ذلك فقد صدق)؛ من أجل ذلك كان الصديق أحب الرجال إلى قلب سيد الرجال محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: (قلت يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها -أي: الصديق - قال عمرو: ثم من؟ قال المصطفى: ثم عمر).

الصديق رجل في أمة النبي صلى الله عليه وسلم يزن أمة، وقد أفردت له لقاءً كاملاً بعنوان: رجل يزن أمة، إنه الصديق.

روى أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب موقوفاً عليه أنه قال: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر) ولم لا يا إخوة؟!! الصديق لم يترك سبيلاً من سبل الخير إلا وسارع إليه بهمة عالية، في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله يدعى يوم القيامة من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، يا عبد الله! هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال الصديق: يا رسول الله! وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)، وفي رواية ابن حبان من حديث ابن عباس بسند صحيح قال الصديق: (وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها يا رسول الله؟! قال المصطفى: نعم وأنت هو يا أبا بكر).

هذه درجته ومكانته، تنادي عليه كل أبواب الجنة ليدخل منها إلى نعيم مقيم: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤ - ٥٥].

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة يوماً وقال: من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن عاد اليوم منكم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).

وتجلت مكانة الصديق في آخر أيام الحبيب، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عند الله؛ فاختار ما عند الله فبكى الصديق الذي فهم مراد حبيبه ومصطفاه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا وأموالنا وأنفسنا) فضج الناس في المسجد النبوي، وتعجبوا لكلام صديق الأمة، عجباً لهذا الشيخ ماذا يقول؟! الرسول يتحدث عن عبد مخير بين الدنيا والآخرة، فلماذا يقول الصديق مثل هذا الكلام؟! قال أبو سعيد: وكان أفهم الصحابة لكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد فهم الصديق أن العبد المخير هو الحبيب المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، فقال النبي: (على رسلك يا أبا بكر! -ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم مكانة الصديق فقال: أيها الناس! إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، وما نفعني مال أحد قط مثلما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وما منكم من أحد إلا وكان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق فإنا قد تركنا مكافأته لله عز وجل، سدوا الأبواب كلها التي تطل على المسجد إلا باب أبي بكر رضي الله عنه).

وقد فهم أهل العلم أن هذه إشارة واضحة إلى أنه سيتولى من بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأمر النبي أن يبقى بابه مفتوحاً.

يوم مات المصطفى صلى الله عليه وسلم تجلى يقين الصديق وإيمانه الذي لم يتزلزل ولم يتزعزع أبداً، طاش عقل عمر، وطاش عقل عثمان، وخرس لسان علي، وطاشت عقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، انظروا لتعرفوا قدر الصديق، انظروا لتعرفوا مكانة الصديق، عمر الفاروق الأواب صرخ بأعلى صوته وقال: (والله من قال بأن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا، فإن رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه عز وجل كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن وليقطعن أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات) الذي يقول هذا هو عمر فاروق الأمة الأواب! فتصور الصحابة دون عمر كيف كان حالهم؟! وثبت الله الصديق، بل وكان موقفه بمثابة البوصلة التي حددت اتجاه التاريخ، نحو هذا العملاق الذي لم يتلعثم ولم يتزعزع ولم يتردد، بل كان هذا الموقف بمثابة الموقف الذي يبين بجلاء ووضوح أن الرجل الذي يجب أن يتقدم ليسد الفراغ الرهيب الذي سيتركه الرسول صلى الله عليه وسلم بموته هو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، شق أبو بكر الصفوف، ودخل غرفة عائشة، فوجد حبيبه مسجى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقبل الصديق رسول الله بين عينيه، وجثى على ركبتيه، وفي الرواية التي حسنها شيخنا الألباني في مختصر الشمائل أن الصديق بكى، وعلم أن الموت حق، وأن الرسول قد مات، فنادى على حبيبه وقال: (وا صفياه! وا صفياه! وا نبياه! وا حبيباه! وا خليلاه!)، وقال في رواية الصحيحين: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها ولا ألم عليك بعد اليوم).

وخرج الصديق إلى الناس، وقال على رسلك يا عمر! انتظر يا عمر! فاجتمع الناس حول الصديق، فحمد الله وأثنى عليه وقال في ثبات مذهل، ويقين عجيب: (أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقرأ قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤]).

إنه الصديق، إذاً: يا راية الله رفرفي! إذاً: فلتتقدم أيها الرجل العملاق الكبير لتملأ هذا الفراغ الكبير الذي تركه النبي العظيم الكبير صلى الله عليه وسلم، إنه الصديق الذي لو ظللت أتحدث عنه الدهر ما وفيت هذا الرجل العملاق حقه.

هذا الرجل الذي كان من أعظم بركاته على الأمة: أنه أطفأ نار حروب الردة، تلك النار التي صهرت الأمة صهراً، ونفت عن الصف الخبثاء والدخلاء، وميزت المؤمنين من المنافقين، تلك المحنة التي تحولت بفضل الله ورحمته إلى منحة كبيرة على الإسلام وعلى المسلمين.

ومن أعظم بركاته: أنه أرسل جيش أسامة؛ ليؤدب القبائل التي غارت على حدود الدولة الإسلامية، وكانت مدعومة من الدولة الرومانية.

ومن أعظم بركاته: أنه جمع القرآن الكريم بعد غزوة اليمامة التي قتل فيها كثير من القراء من حفاظ كتاب الله، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بل وإن شئت فقل: ومن أعظم بركات الصديق أيضاً: أنه قبل أن يموت أمر كتابة باستخلاف عمر على أمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: (ماذا تقول لربك إن سألك وقد وليت على أمة النبي صلى الله عليه وسلم من بعدك عمر وهو القوي الغليظ الشديد؟! قال الصديق: إن سألني ربي سأقول له: يا رب! وليت عليهم أقواهم وأعدلهم).

فهل يسب الصديق؟!!