: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}[ق:١٩ - ٢٠] لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس، يموت الصالحون والطالحون، يموت الظالمون والمظلومون، يموت المجاهدون والقاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة والمستذلون للعبيد، يموت المخلصون الصادقون، الرجال الذين يأبون الضيم والذل، والجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف الراقية العالية، والفارغون التافهون الذين لا يعيشون فقط إلا من أجل شهواتهم ونزواتهم، ومن أجل متعهم الرخيصة:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:١٨٥].
من علم أن الموت موعده، والقيامة مورده، والوقوف بين يدي الله مشهده، فحق له أن يطول بالدنيا حزنه.
من النافخ؟ إسرافيل، ويأمره الله جل وعلا أن ينفخ نفخة الفزع:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}[النمل:٨٧] فيأمره أن ينفخ نفخة ثانية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}[الزمر:٦٨] أي: فمات، وحينئذٍ إذا أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الصعق، ومات كل حيٍ على ظهر هذه الأرض، بل وأمر الله بموت الملائكة جميعاً يسود صمتٌ رهيب، يشق هذا الصمت صوت جليل مهيب، يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما من سائل يومئذٍ غيره ولا مجيب، كما في الصحيحين:(إذا مات كل حي ينطق الحق جل وعلا، ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! أين المتكبرون؟! أين الجبارون؟!) وفي رواية مسلم: (يقول الحق جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ فيجيب على ذاته ويقول:{الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر:١٦]).
أين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟!
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلماً وطغيان
هل أبقى الموت عزٍ لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدمٍ الكل يفنى فلا إنس ولا جان
أنا الملك {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر:١٦]{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}[الزمر:٦٧] ثم يُؤمر إسرافيل بالنفخة الثالثة ألا وهي: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:٦٨] قيامٌ انظر إلى هذا المشهد، فوالله أنه من أرهب مشاهد القيامة، يوم ترى الأرض كلها تتشقق هنا وهناك، ليخرج الناس جميعاً من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليخرج الناس من قبورهم حفاةً عراةً مرتاعين:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة:١ - ٨].
أيها الحبيب: يخرج الناس جميعاً ممتدة رقابهم، شاخصة أبصارهم، يستجيبون لهذا الداعي الذي جاء ليقودهم إلى أرض المحشر، ليرى العبد نفسه واقفاً بشخصه ولحمه عارياً بين يدي ربه جل وعلا، ليعطى صحيفته، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، هذه الصحيفة التي لا تغادر مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها.