العنصر الرابع: بإيجاز شديد: نموذج من القذف البشع، وانتبهوا جيداً أيها الأحباب الكرام! إنه نموذج من القذف البشع لأشرف وأطهر وأكرم بيت على ظهر هذه الأرض، لبيت الحبيب المصطفى، لبيت رسول الله، قذف الرسول واتهم في عرضه وشرفه في عائشة التي أحبها من كل قلبه، ولنترك الحديث لـ عائشة رضي الله عنها لتحدثنا عن هذا النموذج الوقح، وعن هذه الفتنة المزلزلة القاسية المدمرة، والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما، تقول عائشة رضي الله عنها:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه -أي: ضرب يبن نسائه قرعة- فأيتهن وقعت القرعة عليها خرجت مع رسول الله، فأقرع رسول الله بيننا في إحدى غزواته -وهي: غزوة بني المصطلق- فوقع سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت آية الحجاب قد نزلت، وكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه -والهودج: هو المحمل على ظهر البعير تركب فيه المرأة ليسترها، أي: يحملون الهودج وهي بداخله، يضعونه وينزلونه- فلما انتهى رسول الله من الغزو وقفل -أي: عاد- ودنونا من المدينة آذن رسول الله ليلة بالرحيل، فانطلقت لقضاء حاجتي بعيداً عن الجيش، فلما قضت حاجتها وفرغت من شأنها عادت إلى رحلها، فالتمست صدرها فلم تجد عقدها، فعادت مرة أخرى لتبحث عن عقدها، وأخرها طلب العقد، وكان الجيش قد رحل، فلما عادت لم تجد في منزل الجيش من داع ولا مجيب، تقول عائشة: فمكثت في منزلي، وظننت أن القوم سيفقدونني، ويرجعون إلي، فبينما أنا كذلك غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه خلف الجيش، فرأى سواد إنسان نائم، فأقبل عليها وعرفها؛ تقول: فعرفني؛ لأنه كان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه -أي: استيقظت من نومي على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فخمرت وجهي بجلبابي -أي: غطيت وجهي بجلبابي- ووالله! ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، فأناخ راحلته فركبتها، وانطلق بي يقود الراحلة، حتى أتينا الجيش وقد نزل في نحر الظهيرة -أي: في وسط شدة الحر- فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول) وفي بعض الروايات: (نظر رأس النفاق الوقح فقال: من هذه؟! لأنها جاءت بغير هودج، جاءت على ظهر بعير صفوان بن المعطل رضي الله عنه، فقالوا: إنها عائشة رضي الله عنها، فقال الخبيث: زوج نبيكم تبيت مع رجل، ويأتي بها في الصباح يقودها! والله! ما نجت منه، ولا نجا منها!) قولة عفنة خبيثة شريرة، وطير المنافق هذه المقولة وهذا القذف الخطير الكبير، وتلقفتها ألسنة المشركين والمنافقين، وما أكثرهم في كل زمان ومكان! الذين يريدون النيل من القادة الأطهار الأشراف الأخيار، ويريدون النيل من الإسلام ذاته متمثلاً في أطهر مثل، وأعظم قدوة، في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهلك بعض المسلمين، وزلوا وسقطوا في هذا، وماجت المدينة الطاهرة شهراً كاملاً بقولة أهل الإفك؛ بهذا القذف المرير الرهيب الخطير، ولحكمة يعلمها الله عز وجل لم تنزل آية واحدة على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يتألم، ويطحن قلبه الألم، ويعصر كبده هذا الخبر الفظيع المؤلم، رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهم في عرضه! ويتهم في شرفه! ويتهم في طهارته! وهو الطاهر الذي فاقت طهارته على جميع العالمين، ويتهم في صيانة حرمته! وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته، وفيمن؟! في عائشة التي أحبها من كل قلبه، وها هي الصديقة الطاهرة العفيفة الحصان الرزان رضوان الله عليها تتهم في أعز وأغلى ما تعتز به كل فتاة شريفة، في عرضها وفي شرفها، تتهم عائشة زوج الحبيب رسول الله في عرضها وشرفها، وهي الزهرة التي ترعرعت في بستان الإسلام، وسقيت بمداد الوحي على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وها هو صديق الأمة الأكبر الرجل الكريم الشهم أبو بكر الذي احتل ذروة سنام الصديقية بلا منازع، يحطم قلبه الألم، وتهدهد هذه الإشاعة كبده، وتكاد أن تفتته، رضي الله عنه وأرضاه، ويحدث ويعبر عن هذا الألم الذي يكاد يعصر قلبه، ويحطم فؤاده وهو يقول:(والله! ما رضينا بهذا في الجاهلية أفنرضى به في الإسلام؟!) وها هو الصحابي الجليل صفوان بن المعطل يتهم في دينه وعرضه، ويتهم في شرفه، ويتهم بخيانة حبيبه ورسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم، رحماك رحماك يا ألله! أي ابتلاء هذا؟! وأي فتنة هذه؟! والله لا تقوى الجبال الراسيات على تحمل هذه المصيبة الكبيرة والفتنة المدمرة، قال عز وجل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:٢ - ٣] لكِ الله يا عائشة! فما حالها؟! وكيف يكون شأنها؟! وهي الغافلة التي لا تعلم عن الأمر شيئاً، بل ولم تسمع عن الأمر شيئاً، تقول عائشة:(فلما عدنا إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لم أعلم شيئاً، ولم أسمع من حديث الإفك شيئاً، ولم أستنكر من رسول الله إلا أنه لم يكن يلاطفني بمثل ما كان يلاطفني به إذا اشتكيت، حتى خرجت يوماً لقضاء حاجتي، فالتقيت بأم مسطح، فأخبرتني بخبر أهل الإفك، فقلت: أوقد قال الناس ذلك؟! قالت: بلى، أما سمعت؟!) فعادت عائشة رضي الله عنها الغافلة المحصنة المؤمنة البريئة الطوية التي لا تنتبه لشيء؛ لأنها ما ألمت بشيء تحذر منه أو تخاف منه، عادت إلى بيتها فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنته أن تذهب إلى بيت أبويها لتتيقن من الخبر، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول:(فذهبت إلى بيت أبوي، فسألت أمي، فقالت لها أمها: يا بنية! لا تلتفتي إلى هذا، فقلت: سبحان الله! أوقد قال الناس هذا حقاً؟! فبكيت تلك الليلة، وما اكتحلت عيني بنوم، حتى إن أبوي يزعمان أن البكاء فالق كبدي، تقول: ورسول الله يدخل يسلم ولا يقول إلا كلمة واحدة: كيف تيكم؟! ثم ينصرف، تقول: فاستأذنت عليّ ذات يوم امرأة من الأنصار، فأذنت لها، وأنا أبكي، فجلست إلى جواري تبكي، وأبواي جالسان عند رأسي، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إلى جوار عائشة وتشهد وحمد الله عز وجل ثم قال: يا عائشة! لقد بلغني عنك كذا وكذا؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله؛ وتوبي إليه، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه فتاب إلى الله تاب الله عليه) يا ألله! يقول هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة:(فلما سمعت مقالة رسول الله قلص دمعي -جف الدمع في عيني، ونظرت إلى أبيها، وهي لا تعرف بماذا تجيب؟! وماذا تقول؟! - وقالت لأبيها: أجب عني رسول الله، فقال الصديق رضي الله عنه: والله! ما أعلم ماذا أقول لرسول الله، فالتفتت المسكينة إلى أمها فقالت: أجيبي عني رسول الله، فقالت الأم التي حطمها الألم: والله! ما أعلم ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول المسكينة الحصان الرزان: والله! ما أعلم لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف:١٨] تقول عائشة: فاضطجعت في فراشي وأعطيت لهم ظهري، ووالله! إني لأعلم أني لبريئة، وأن الله مبرئي ببراءة، ولكني ما كنت أظن أن الله سينزل في حقي وحياً يتلى، فلشأني في نفسي كان أحقر من هذا، تقول: والله! ما غادر رسول الله موضعه وما برح المكان منا أحد وإذ برسول الله ينزل عليه الوحي، وكان إذا تنزل عليه الوحي عرف منه ذلك، حتى أخذته الرحضاء، وتنزلت منه مثل حبات الجمان -أي: كحبات اللؤلؤ- في اليوم الشديد البرودة، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت عليه براءة عائشة من السماء ممن يسمع ويرى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، التفت رسول الله إلى عائشة رضي الله عنها وهو يضحك، وقال لها: أبشري يا عائشة! لقد برأك الله عز وجل، فقالت أمها: قومي يا عائشة فاحمدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: لا والله! والله! لا أحمده ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي) يا لها من ثقة ويقين عجيبين! وتلا الحبيب صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:١١] إلى آخر الآيات في سورة النور.
وهكذا أيها الأحبة! نرى نموذجاً بشعاً مرعباً من نماذج القذف، وهذه هي خطورته، ومن ثمَّ شدد الإسلام هذا التشديد على هذه الجريمة البشعة التي تفسح المجال لكل أحد أن يقول ما شاء في أي وقت شاء، وأن يتهم من شاء بتلك التهمة النكراء.
وأخيراً: في مقابل هذه الصورة القاتمة تبقى لنا صورة وضيئة مشرقة، نعيش معها بعد جلسة الاستراحة.