[التخفيف الإلهي لآلام وأحزان النبي صلى الله عليه وسلم]
وهكذا عاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يحمل في قلبه هموماً وأحزاناً دعوة مطاردة خديجة ماتت أبو طالب مات أصحاب مشردون في الحبشة أمر جلل! والمصطفى صلى الله عليه وسلم يحمل كل هذه الهموم وهو في طريقه إلى مكة يسمع نداءً كما في الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة فيلتفت فإذا جبريل في سحابة في السماء ينادي على المصطفى ويقول:(يا رسول الله! إن الله جل وعلا قد سمع ما قاله قومك لك، وهذا ملك الجبال أرسله الله إليك فمره بما شئت.
يقول المصطفى: فسلم علي ملك الجبال وقال: السلام عليك يا محمد! فرد النبي عليه السلام، فقال ملك الجبال: يا محمد! مرني بما شئت، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت) والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة، يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للثاني: الأحمر.
هذا ملك الجبال يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحطم هذه الجماجم الصلدة، وهذه الرءوس العنيدة المتكبرة الكافرة المتحجرة، ووالله لو كان المصطفى ممن ينتقم لنفسه ممن ينتقم لذاته ممن يثأر لمنصبه ممن يثأر لمكانته، لأمر المصطفى ملك الجبال، ولحطم ملك الجبال هذه الرءوس ولسالت الدماء ليرى أهل مكة دماء أهل الطائف في مكة، ولكنه ما خرج لنفسه ما خرج لذاته، إنما خرج لله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ}[يوسف:١٠٨] لا إلى جماعة بعينها، ولا لزعامة، ولا لمنصب ولا لقيادة ولا لريادة ولا لشهرة ولا لجاه:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ).
أيها الأحباب! دعوكم من هذه العصبيات المنتنة للجماعات، وللثارات وللرايات، وليس معنى ذلك: أنني أنكر صحة العمل الجماعي، وإنما أقول: شتان بين العمل الجماعي الذي هو أصل من أصول الدين، وبين التعصب لجماعة بعينها تعصباً بغيضاً أعمى، يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل ولو كان واضحاً كالشمس في وضح النهار! (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ).
أيها الأحباب! لو كان المصطفى صلى الله عليه وسلم ممن يدعو لنفسه ولذاته؛ لأمر ملك الجبال فحطم ملك الجبال تلك الرءوس والجماجم ولسالت الأودية أنهاراً من الدماء حتى يرى أهل مكة دماء أهل الطائف بمكة لكن: ماذا قال الحبيب نهر الرحمة وينبوع الحنان؟! قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:(لا، بل إنني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله جل وعلا) أي: من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً إنها الرحمة! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧]{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:١٥٩] وهذا نصر من الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وما إن وصل الحبيب إلى مكة زادها الله تشريفاً إلا ورأى كرامة أخرى له من الله عز وجل ليرى جبريل في انتظاره؛ ليأخذه إلى هذه الرحلة المباركة إلى رحلة الإسراء والمعراج، وكأن الله عز وجل قد أراد أن يقول لحبيبه المصطفى: يا رسول الله! إن كان أهل مكة وأهل الطائف قد رفضوك فإن رب السماء والأرض يدعوك! يا محمد! لا تظن أن جفاء أهل الأرض يعني جفاء السماء، بل إن الله يدعوك اليوم ليعوضك بجفاء أهل الأرض حفاوة أهل السماء.
الله أكبر! يرجع الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم هانئ -لنجمع بين الأحاديث وبين الروايات إذ لا تعارض بينهما كما قال الحافظ ابن حجر - فيأتيه جبريل فيشق البيت ليأخذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ إلى الحجر، أو إلى الحطيم في بيت الله الحرام، ثم بعد ذلك تبدأ رحلة الإسراء بشق صدر المصطفى، والحديث متفق عليه.
يشق جبريل صدر النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أنه قد شق صدره قبل ذلك وهو غلام صغير حينما كان في ديار بني سعد عند مرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها، يشق صدره وبعدها تبدأ الرحلة المباركة.