أما الموت فإنه حق لا مراء ولاشك فيه، قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:١٩ - ٢٢]، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}[ق:١٩] والحق أنك تموت والله حي لا يموت.
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}[ق:١٩] والحق إما أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}[ق:١٩] والحق إما أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:١٩]، ذلك ما كنت تحيد منه إلى الطبيب إذا جاءك المرض وإلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وإلى الشراب إذا أحسست بالظمأ.
ولكن؛ ثم ماذا أيها القوي الفتي، أيها الذكي العبقري، يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مذخور سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى.
أيها الإنسان أيها اللاهي الساهي! يا من غرك مالك! ويا من خدعك جاهك وسلطانك! أيها الإنسان: مهما عظمت دنياك فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
أيها الإنسان! اعلم أنك راحل إلى الله جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}[الانشقاق:٦] لابد أن تلقى الله عز وجل؛ فإذا ما اقتربت ساعة الصفر وانتهى أجلك كما حدده الله جل وعلا، وأصبحت في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا وصرت طريح الفراش وحولك أولادك يبكون! والأطباء من حولك يحاولون ولكن انظروا معي أيها الأحباب إليه وإلى حاله وكربه وفزعه انظروا معي إليه وقد نام على فراش الموت ولقد اصفر وجه وشحب لونه وبردت أطرافه وتجعد جلده وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه يريد أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يزحزح إلا لمن يسر الله عز وجل عليه.
وهو في هذا الفزع والجزع يطير فؤاده، وينخلع قلبه، فإذا أفاق بين صحوات الموت -بين السكرات والكربات- نظر إلى من حوله من الأولاد والأحباب والأطباء، فرآهم مرة ولم يرهم مرة أخرى، رآهم مرة يقتربون منه، ومرة يبتعدون عنه، مرة يسمعهم ومرة لا يسمعهم، فإذا أفاق لحظة أخرى بين الصحوات من سكرات الموت وكرباته نظر إليهم نظرة ثانية؛ نظرة طويلة وكلها رحمة وشفقة، ورجاء وسؤال وكأنه يقول لهم بلسان الحال: يا أولادي! يا أحبابي! يا أصحابي! لا تتركوني وحدي، ولا تخرجوني إلى لحدي، أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، هل منكم من يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا -أيها الأحباب- يأتيه صوت الحق من الله جل وعلا، فيقول:{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:٨٣ - ٩٦] سبحان ربي العظيم! من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ}[القيامة:٢٦ - ٢٩]، هكذا خرجت روحه إلى خالقها جل وعلا، وصار طريح الفراش لا حراك في جسمه.
أيها الإنسان أين ريحك الطيب؟! أين لسانك الفصيح؟ أين حركتك الدائبة؟ ما أعجزك في هذه اللحظات! من الذي أخرسك وأسكتك؟ إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى التي لا يماري فيها إنسان، ولا يجادل فيها مخلوق على ظهر هذه الأرض.