للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلا إذا بلغت التراقي]

صدق الله جل وعلا إذا يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:٢٦ - ٣٠].

{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:٢٦]، أي: إذا بلغت الروح الحلقوم، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٧]، أي: من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ من الذي يقدم له العلاج؟ من الذي يحول بينه وبين الموت؟ انظر إليه وهو صاحب الجاه، صاحب السلطان، صاحب الأموال، صاحب السيارات، صاحب العمارات، صاحب الوزارات.

انظر إليه وهو على فراش الموت، التف الأطباء من حوله، ذاك يبذل له الرقية، وذاك يقدم له العلاج، يريدون شيئاً وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر.

انظر إليه -أيها الحبيب- وقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أمام اليدين والقدمين، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بـ (لا إله إلا الله)، إلا لمن عاش على الإيمان ومات على الإيمان كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢].

ينظر إلى أهله وإلى أحبابه، فيراهم مرة يبتعدون ومرة يقتربون، ويرى الغرفة التي هو فيها مرة تضيق عليه فتصغر كخرم إبرة، ومرة يراها كالفضاء الموحش، فإذا وعى ما حوله في الصحوات بين السكرات والكربات نظر إليهم نظرة استعطاف، ونظرة رجاء ونظرة أمل، ونظرة تمن، وقال لهم بلسان الحال -بل وبلسان المقال-: يا أحبابي! يا أولادي! يا أبنائي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عمرت لكم الدور، أنا الذي نميت التجارة، أنا صاحب الجاه، أنا صاحب الوزارة، أنا صاحب السلطان، أنا صاحب الأموال، أنا صاحب الكراسي، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعمالكم، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق، كما قال الحق جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٨٣ - ٩٦].

سبحانك يا من ذللت بالموت رقاب الجبابرة، سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة، سبحانك يا من نقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنساء والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب.

{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٦ - ٢٧]، أي: من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ من الذي يقدم له العلاج؟ من الذي يحول بينه وبين الموت؟ وقيل: إن معنى (مَنْ رَاقٍ) أي: من الذي سيرقى بروحه إلى الملك جل وعلا؟ وهذا معنى آخر، فمن الذي سيرتقي بهذه الروح من الملائكة؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٧ - ٢٩] أهذا هو الذي سيخرج به وهو هذه الأكفان وهذا القماش؟ أين ماله؟ أين جاهه؟ أين كرسيه؟ أين سلطانه؟ أين دولاراته؟ أين أولاده؟ أين طائراته؟ أين دباباته؟ أين وزارته؟ أين الجاه؟ أهذا هو الذي سيخرج به؟