والتحقيق أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله، وشكوى من الله, أعاذنا الله وإياكم من الأخيرة.
فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، فلقد مدح الله نبيه يعقوب، وأثبت له الصبر في قرآنه فقال حكاية عنه:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف:١٨] ومع ذلك فقد رفع يعقوب شكواه إلى مولاه، فقال:{إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف:٨٦] وأثنى الله على عبده أيوب فقال جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:٤٤] ومع ذلك فقد رفع نبي الله أيوب شكواه إلى الله كما قال الله جل في علاه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:٨٣] فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر.
أما الشكوى من الله -أعاذنا الله وإياكم منها- فهي شكوى للمخلوق من الخالق.
فإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم! وإذا ذكر الصبر ذكر نبي الله أيوب، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فلقد ابتلى الله أيوب بماله وولده وبدنه: فقد المال كله! مات جميع أبنائه جملة واحدة! ابتلاه الله في جسده بمرض أقعده في الأرض وألزمه الفراش؛ فصبر، وامتلأ قلبه بالحب لله والرضا عن الله، ولم يسلم من بدنه البتة إلا قلبه ولسانه! أما قلبه: فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما لسانه: فلم يفتر عن ذكر الله جل وعلا، وهذه والله هي الحياة، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت)، فالذاكر لله حي وإن ماتت فيه الأعضاء، والقاعد عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء، لم يبق إلا لسانه وقلبه، أما القلب: فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما اللسان: فلم يفتر عن ذكر مولاه، وفزعت زوجته الصابرة الوفية حينما قالت له: ادع الله أن يفرج كربك، فقال نبي الله أيوب: لقد عشت سبعين سنة وأنا صحيح، ولله عليَّ أن أصبر له سبعين سنة وأنا سقيم، ففزعت زوجته!