الفطناء العقلاء الأذكياء هم الذين عرفوا حقيقة الدار فحرثوها وزرعوها، وهنالك في الآخرة تجنى الثمار، فالذم الوارد في القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل أو نهار؛ فلقد جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكناً ومستقراً، والذم الوارد للدنيا في القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وعلى الناس، وإنما الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا يرجع إلى كل معصية تُرتكب على ظهرها في حق ربنا جل وعلا، فلابد من تأصيل هذا الفهم، لاسيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين ربما يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد في هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن نقنط أحداً من هذه الحياة، ولا نريد أن نثبت لكل عامل في هذه الدنيا ولو كان في الحلال أنه تجاوز طريق الأنبياء والصالحين والأولياء، كلا! كلا! بل الدنيا مزرعة للآخرة.
أيها الأخيار! تدبروا معي قول علي بن أبى طالب رضي الله عنه:(الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن أخذ منها، الدنيا مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله).
فالدنيا مزرعة الآخرة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال:(ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة).
فلابد من هذا التأصيل، ولابد من هذا الفهم الدقيق بهذا الوعي العميق لحقيقة الدنيا؛ لننطلق من هذه الدار إلى دار تجمع سلامة الأبدان والأديان إلى دار القرار، فلابد قبل أن تعبر إلى دار القرار من المرور بهذه الدار.
فالدنيا دار ممر والآخرة هي دار المقر، الدنيا مركب عبور لا منزل حبور، الدنيا دار فناء وليست دار بقاء، فلابد من وعي هذه الحقيقة لنستغل وجودنا في هذه الدار، ولنزرع هنا ونجني هنالك عند ربنا عظيم الثمار، أسأل الله أن يجعلنا من الصادقين.
إذا علمت ذلك أيها الحبيب الكريم! فاعلم هذه الحقائق، وكن على يقين جازم بأن الحياة في هذه الدنيا موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً، فيموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشرفاء الذين يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، فالكل يموت، كما قال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:٢٦ - ٢٧].
فلابد من أن تستقر هذه الحقيقة في القلب والعقل معاً، إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا للملك الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي شرب كأسها الأنبياء والمرسلون، والعصاة والطائعون، إنها الحقيقة الكبيرة التي تؤكد لنا كل لحظة من لحظات الزمن قول الله جل وعلا:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[القصص:٨٨].