تبقى لنا مسألة أخيرة من المسائل الهامة التي تتعلق بهذا الباب أيضاً، ألا وهي: تفاضل أهل الإيمان.
والمقصود: أن أهل الإيمان يتفاوتون فيما بينهم بحسب درجة الإيمان في قلوبهم؛ فأعلاهم منزلة أولو العزم من الرسل، وأدناهم المخلطون من أهل التوحيد الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, وبين هاتين الدرجتين من الدرجات ما الله جل وعلا به عليم, فإن أهل الإيمان يتفاضلون ويتفاوتون.
بل إنهم ليتفاضلون ويتفاوتون في العمل الواحد، وفي المكان الواحد، والوقت الواحد، انظروا مثلاً إلى صلاة الجماعة في مسجد واحد، وفي وقت واحد، وخلف إمام واحد، وبين هؤلاء من الدرجات كما بين السماء والأرض، كما قال إمامنا ابن القيم رحمه الله تعالى: فهذا -مثلاً- يرى الصلاة قرة عين؛ يتمنى أن لو طالت الصلاة, وآخر يحس أنه في أضيق سجن -والعياذ بالله- ويتمنى أن لو انتهت الصلاة كلمح البصر, وآخر من نفس الجماعة، ومن نفس الصفوف تخرج صلاته منيرة مضيئة حتى تفضي إلى عرش الرحمن جل وعلا، وآخر تخرج صلاته مظلمة كظلمة القبر والعياذ بالله, وآخر يقف بجسده في الصلاة وقلبه يهيم في كل واد؛ حتى لا يدري أقرأ الفاتحة جالساً أم قرأ التشهد قائماً, وآخر يقف في الصلاة وهو يفكر هنا وهناك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وآخر يأتي الصلاة نفاقاً ورياءً والعياذ بالله, والكل يقف في مسجد واحد، وفي فرض واحد، وخلف إمام واحد، وبينهم من التفاوت والدرجات ما الله جل وعلا به عليم, وعلى هذا التفاوت يموت الناس, وعلى هذا القدر يبعثون، وعلى هذا القدر يكونون في العرق في يوم الموقف, وعلى هذا القدر تقسم الأنوار على الصراط, وعلى هذا القدر يتسابقون إلى الجنات, بل وعلى هذا القدر من الإيمان تكون مقاعدهم من رب الأرض والسماوات في يوم المزيد:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة:٤] هذه قاعدة هامة من قواعد أهل السنة والجماعة.
وأستطيع أن أقول: بأننا والحمد لله جل وعلا وبتوفيق منه وفضل قد وفينا هذا الباب في قوله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:١٤].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.