[داء الإعراض والفتور]
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك في أول جمعة بعد شهر رمضان، وكعادتنا سوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: إعراض وفتور.
ثانياً: ثمار زكية.
ثالثاً: أسباب معينة.
رابعاً: مُثل عليا.
وأخيراً: احذر الموت.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! فإن هذا الموضوع بعد رمضان من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: إعراض وفتور.
أيها الأحبة الكرام! هاهي الساعات تمر، والأيام تجرى وراءها، وانتهى شهر رمضان، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقُبل فيه من قُبل، وطُرد فيه من طُرد، فياليت شعري من المقبول منا فنهنئه ومن المطرود منا فنعزيه؟! فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليال ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقى إخوتي من فضل أعمار أيها الأحبة! لقد رأينا المساجد معطرة بأنفاس الصائمين في رمضان، ورأينا المساجد في رمضان مزدحمة بصفوف المصلين، بل وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بالذكر وكلام رب العالمين، بل وأسعد قلوبنا في رمضان تنافس أهل البر من المحسنين.
ولكن مع أول فجر من شهر شوال يتألم قلبك، وتبكي عينك، ويتحسر فؤادك، وتتمزق نفسك حسرات! أين المؤمنون؟! أين المصلون في رمضان؟! أين القائمون لله في رمضان؟! أين الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟! سترى المساجد خاوية مع أول فجر من شهر شوال تشكو حالها إلى الكبير المتعال!! ما الذي حدث؟ ترى إعراضاً وفتوراً يؤلم القلب الأبي التقي النقي.
والفتور في اللغة: هو الانقطاع بعد الاستمرار، وهو التكاسل والتباطؤ والتراخي؛ كما قال ابن منظور في لسان العرب: فتر يفتر فتوراً.
أي: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة.
فإنك ترى يا عبد الله فتوراً ملفتاً لجميع الأنظار مع انقضاء آخر ليلة من ليالي شهر رمضان، بل ولست مبالغاً -ورب الكعبة- إذا قلت: إن هذا الفتور قد يتطرق ويزيد إلى درجة الإعراض، لا عن نافلة من النوافل، بل عن فريضة افترضها الله عز جل على عباده على الدوام، لا في المناسبات ومواسم الطاعات، كأن يعرض كثير من المسلمين عن صلاة الفريضة في غير رمضان.
يا عبد الله! هل كنت تعبد في رمضان رباً، وتعبد في بقية الشهور رباً آخر؟! إن رب رمضان هو رب بقية الشهور والأيام هو الإله الواحد الحق الذي لا ند له، ولا ضد له، ولا شريك له، ولا والد له، ولا ولد له.
(قل هو الله أحد) أحد في أسمائه أحد في صفاته أحد في أفعاله.
فيا من صليت لله في رمضان وضيعت الصلاة في غير رمضان احذر واعلم يقيناً بأن هذه الصفة من علامات النفاق، أسأل الله أن يملأ قلبي وقلبك إيماناً، إنه ولي ذلك ومولاه.
إن المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين، بل ومن أحب القربات إلى الله رب العالمين؛ كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، بل وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها كذلك قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته) أي: داوم وواظب عليه، فكان إذا فاته شيء من صلاة الليل لنوم أو مرض صلاه في النهار، وإذا فاته شيء من عبادة الليل قضاها في النهار ما بين الفجر والظهر، فيصلي في النهار مثلاً اثنتي عشرة ركعة.