فمع اللقاء الحادي عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الزاد الذي لابد لكل داعية يسلك طريق الدعوة الطويل من تحصيله والتزود به، ولا زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الصبر، وزاد اليوم: صبر جميل صبر جميل.
أحبتي في الله! ليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد مرير يحتاج إلى صبر جميل، ولا يكفي أن يقول الناس: آمنا حتى يتعرضوا للفتن، ويثبتوا عليها، ويخرجوا منها خالصة عناصرهم صافية قلوبهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:٢]، فالفتنة أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله جل وعلا {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:٣]، فكما تفتن النار الذهب لتخلص بينه وبين العناصر الشائبة والرخيصة العالقة به، كذلك تفعل الفتن في النفوس البشرية، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:٣]، لماذا؟ لأن هناك نموذجاً من الناس يعلن كلمة الإيمان في وقت الرخاء، يحسبها هينة الحمل، خفيفة المئونة، فإذا ما تعرض لفتنة من الفتن حتى ولو كانت هذه الفتنة هينة لينة استقبلها بهلع وجزع وفزع، واختلت في نفسه القيم، وطاشت بين يديه الموازين، وتزلزلت في قلبه العقيدة، كما قال ربنا جل وعلا:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}[العنكبوت:١٠]، إنه نموذج متكرر من البشر في كل حين وفي كل جيل، إنه نموذج يزن العقيدة والدعوة بميزان الربح والخسارة، يظن العقيدة والدعوة صفقة يتاجر بها في أسواق التجارة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحج:١١]، هذا الصنف أيها الأخيار الكرام لا يصلح أن يكون صاحب دعوة، ولا حامل رسالة، ولا أميناً على منهج؛ لذا لو كان طريق الدعوة إلى الله جل وعلا هيناً ليناً مفروشاً بالزهور والورود والرياحين لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، وأن يكون حامل رسالة، وأن يكون مؤتمناً على منهج، وما اختلطت حينئذ دعوات الحق بدعوات الباطل الزائفة الكاذبة؛ لذا فلابد على طول طريق الدعوة إلى الله عز وجل من الفتن التي تعصف بالقلوب، وتزلزل الأفئدة، لماذا؟ ليغربل الله ويمحص القائمين عليها ويفرز الزائفين عنها، ولتبرز دعوات الحق من بين دعاوى الباطل الكاذبة الزائفة:{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:٣]، فمن ثبت بعد هذه الفتن المزلزلة على طريق الدعوة الطويل فهو بحق وجدارة صاحب الأهلية لحمل راية الدعوة إلى الله عز وجل؛ ليسير بها بين الأشواك والصخور.
إنها فتن قاسية، إنها فتن مزلزلة، فهناك فتنة الظلم والبطش والطغيان من أهل الباطل والجبروت التي تصب صباً على رأس الداعية إلى الله جل وعلا، إن سلك طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد تُصب على رأسه الفتن صباً، ويُصب عليه البلاء والاضطهاد صباً، وتزداد الفتنة حين لا يرى من يسانده ومن يقف إلى جواره من البشر، وتزداد الفتنة إذا لم يجد من القوة والمنعة والحماية ما يدفع به عن نفسه الأذى والبطش والظلم والجبروت والطغيان.
وهناك فتنة الأهل والأولاد الصغار الذين يخشى عليهم الداعية أن يصيبهم الأذى والفتنة بسببه، وقد يهتفون به، وينادون عليه، ويصرخون في وجهه باسم الحب باسم القرابة باسم الرحم أن يسالم أو يستسلم للبطش والظلم والطغيان، وقد تزداد الفتنة أذىً وبلاءً على رأس الداعية المؤمن إذا وقع الأذى على أهله وأولاده أمام عينيه وبين يديه، وهو لا يملك لهم شيئاً، ولا يستطيع أن يرد عنهم من الأذى شيئاً.
وهناك فتنة إقبال الدنيا على الظالمين، على المبطلين، على المهرجين، على الساقطين والراقصين، فتنة إقبال الدنيا عليهم، ورؤية الناس لهم مرموقين ناجحين: تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير المخدوعة، وتصاغ لهم الأمجاد، وتحطم في طرقهم العوائق، وتذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم الأبواب؛ والداعية المؤمن والمؤمن التقي النقي مهمل منكر، لا يحس به أحد، ولا يكرم من أحد، ولا يحتفي به أحد، بل ولا يحس بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً.
وهناك فتنة الشهوات والشبهات التي تعصف بقلوب كثير من الناس، وتحيد بهم عن طريق الحق وعن الصراط المستقيم، وقد يحس الداعية أحياناً بشيء من اليأس والملل والفتور والقنوط، ويظن أن هذه القلوب لا يمكن أبداً أن تأتي وأن تسجد لعلام الغيوب جل وعلا.
وهناك فتنة أخرى خطيرة، نراها بارزة في هذه الأيام، تعصف بقلوب كثير من المسلمين، بل وتعصف بقلوب بعض الدعاة أحياناً ألا وهي أننا نرى أمماً ودولاً غارقة في الكفر والشرك، ومع ذلك نراها تقدر الإنسان كإنسان، نراها تقدر عقله وتحترم فكره وتنمي مواهبه وتزكي قدراته، بل وتفتح ذراعيها لكل المبدعين والموهوبين في شتى المجالات، حتى ولو كانوا من غير بني جنسها؛ في الوقت الذي يرى المؤمن نفسه في كثير من بلدان المسلمين مهضوماً، يحتقر فكره، ويزدرى عقله، ويمتهن رأيه، ويشار إليه بأصابع الإرهاب وأصابع التطرف والأصولية، ويسجن عقله، بل ويسجن بدنه.
إنها فتن قاسية فتن خطيرة، ويزداد الهم والغم والبلاء على كل سالك لهذا الطريق إذا طال أمد الفتنة، وأبطأ نصر الله جل وعلا، حينئذ تكون الفتنة أشد، ويكون الابتلاء أقسى وأعنف، ولا يثبت على طريق الدعوة إلى الله إلا من ثبته الله جل وعلا، وأمده الله بخير زاد، وأمده الله بأقوى ضياء وأعظم زاد للبلاء، ألا وهو الصبر الجميل، لابد تجاه كل هذه الفتن من الصبر الجميل، فما هو الصبر الجميل؟ هل الصبر الجميل هو الذي تصاحبه الشكوى؟! هل الصبر الجميل هو الذي يصاحبه الأنين والألم؟! هل الصبر الجميل هو الذي تصاحبه الشهوة الخفية -وإن لم تترجم على اللسان- ويقول حينها الداعية: هأنذا يا ربي قد دعوت فلم يستجب لي؟! كلا، إنما الصبر الجميل هو ترفع على الألم، واستعلاء على الفتن، وثبات على محن الدعوة، وثقة كاملة في وعد الله جل وعلا، واطمئنان مطلق في حكمة الله ورحمة الله وقدرة الله ووعد الله عز وجل.