للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رحلة الشرك إلى الأرض من نوح عليه السلام إلى زماننا هذا]

أيها الأحبة في الله! الآيات والأحاديث في خطورة الشرك كثيرة، ولا يتسع الوقت للوقوف عليها كلها أو حتى على معظمها، والسؤال الذي يقفز الآن إلى أذهانكم جميعاً هو: كيف وصل هذا الشرك إلى الأرض؟ وكيف دنس الشرك فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها؟ والجواب عند جمهور أهل العلم: أن بداية ظهور الشرك كانت في قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كما روى ذلك الإمام ابن جرير الطبري شيخ المفسرين بسنده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على شريعة من الحق والهدى، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

كان أولاد آدم من ذريته على ملة أبيهم، على التوحيد الخالص، وعلى العبادة الصحيحة لله جل وعلا، وإن كان وقع بعض المعاصي والذنوب كالقتل وغيرها كما تعلمون جميعاً، ولكن العبادة والتوحيد كان خالصاً لله جل وعلا إلى أن جاء قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فجاء الشيطان -لعنه الله- وزين لقوم نوح عبادة الأصنام، أتدرون ما هي أول قصة لهذه الأصنام؟! هذه الأصنام والتماثيل التي عبدها قوم نوح كانت لقوم صالحين، كما قال ابن عباس، والحديث في صحيح البخاري في كتاب التفسير في سورة نوح في: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، قال: (هذه أسماء قوم صالحين من قوم نوح فذهب الشيطان إليهم وقال: انصبوا لهؤلاء الصالحين تماثيل، وضعوا هذه التماثيل في مجالسكم؛ لتظلوا دائماً تذكرونهم بكل خير، ولتظل سيرتهم حية تنبض بالحياة بينكم، ففعل قوم نوح هذا، ولكنهم في أول الأمر ما عبدوا هذه التماثيل ولا هذه الأصنام، وإنما وضعت هذه التماثيل وكانوا يعظمون أهلها ويقدرون أصحابها؛ لأنهم كانوا قوماً صالحين، فلما نسي العلم وهلك هؤلاء جاء من بعدهم فظنوا أن هذه التماثيل هي آلهة آبائهم فعبدوها من دون ربهم جل وعلا).

فلما أراد الله أن ينتشلهم من هذا الشرك، ومن هذه الأوحال والظلمات أرسل الله جل وعلا إليهم نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم نوح إلى التوحيد، وأمرهم بعبادة الله وحده، وأمرهم أن يتركوا هذه الأصنام وهذه الآلهة المكذوبة، ودعاهم في الليل والنهار، في السر والعلن، ولكنهم عاندوا وأصروا واستكبروا استكباراً، وقالوا على قلب رجل واحد: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:٢٣].

فلما يئس نوح عليه السلام دعا الله جل وعلا: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٦ - ٢٧]، أي: يضلوا عبادك الموحدين المؤمنين.

فاستجاب الله جل وعلا لدعوة نوح.

وفي سورة أخرى قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:١٠ - ١٢]، أي: ماء السماء مع ماء الأرض، قدرناه ودبرناه وأحكمناه، {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:١٢ - ١٤]، إنها قدرة الله جل وعلا، فأهلك الله قوم نوح بالطوفان.

ثم انتقل الشرك من بعد قوم نوح إلى قوم عاد، فجاء قوم عاد فعبدوا آلهة أخرى مع الله جل وعلا، منها: هدى وصدى وصمود، فأرسل الله إليهم هوداً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم إلى توحيد الله، وإلى عبادة الله جل وعلا وحده، فكذبوه وعارضوه وعاندوه، فاستجاب الله عز وجل لنبيه فأهلك الله قوم عاد بريح صرصر عاتية.

ثم جاء من بعدهم قوم ثمود، فأرسل الله جل وعلا إليهم صالحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم إلى توحيد الله وإلى عبادة الله جل وعلا وحده، فكذبوه وحاربوه، فأهلكهم الله جل وعلا بالصيحة.

ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى قوم إبراهيم الذين عبدوا الأصنام، وعبدوا الشمس، وعبدوا القمر، وعبدوا الكواكب والنجوم، فأرسل الله إليهم خليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وامتن الله على إبراهيم فجعل النبوة والكتاب في ذريته إلى يوم القيامة، فجميع الأنبياء من بعد إبراهيم من نسل إسحاق، ولم يبعث الله جل وعلا من نسل إسماعيل إلا نبينا وحبيبنا المصطفى، وجعله الله جل وعلا أفضل الأنبياء وسيد المرسلين.

ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى بني إسرائيل، فعبد أولهم العجل الذي حرقه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعبد آخرهم عزيراً والمسيح تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.

ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى أرض الجزيرة العربية على يد عمرو بن لحي الخزاعي قبحه الله، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار)، و (قصبه) بضم القاف وسكون الصاد هي: الأمعاء، (رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائيب)، وفي لفظ أحمد: (وغير دين إبراهيم).

هذا الرجل هو أول من جاء بالأصنام إلى أرض الجزيرة العربية، وبدأت الأصنام من بعده تكثر وتنتشر حتى ملأت بيت الله الحرام، وكثرت الأصنام حول الكعبة ذاتها، وعبد الناس الحجارة من دون الله جل وعلا، حتى ثبت في الحلية لـ أبي نعيم، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي بسند صحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا رأينا حجراً أحسن منه ألقينا الأول وأخذنا الثاني فعبدناه من دون الله جل وعلا، فإذا لم نجد حجراً أتينا بكومة من التراب وجئنا بالغنم فحلبناها عليه، وطفنا بهذه الكومة نعبدها من دون الله عز وجل.

فلما أراد الله أن ينتشلهم من هذا الشرك إلى أنوار التوحيد والإيمان، بعث الله فيهم إمام الموحدين، وقدوة المحققين محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام لينقذهم من هذا الجحيم الذي أشعلوه بأيديهم، وعشقوا الاحتراق بناره، فجاء النبي يدعوهم إلى لا إله إلا الله، ويعلمهم بأن هذه الحجارة لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن نفسها شيئاً، فمنهم من عاند وأعرض وكفر، وقالت فئة منهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:٥ - ٧].

ووضعت هذه الفئة الكافرة السدود والحواجز والأشواك والصخور والحجارة أمام النبي صلى الله عليه وسلم والموحدين معه، ولكن هذا كله لم يزد الفئة المؤمنة الموحدة التي ذاقت حلاوة الإيمان وطعم التوحيد إلا إيماناً وإصراراً وثباتاً على الحق وإخلاصاً لهذا التوحيد الذي ذاقوا حلاوته، حتى جاء نصر الله جل وعلا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وظلت الأمة ترفل في ثوب التوحيد التي كساها إياه إمام الموحدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى بدأت الفتن تطل برأسها الظلوم، وبوجهها الكالح الغشوم، وابتعدت الأمة رويداً رويداً عن حقيقة التوحيد، وبدأ الشرك يظهر في كثير من بلدان الأمة المؤمنة الموحدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهاهي صور الشرك ومظاهر الشرك قد أنتنت الأرض والبقاع ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولابد أن نعلم -أحبابي- أن الشرك لم يعد يتمثل في هذه الصورة الساذجة التي كانت تتمثل في صورة الصنم الذي يصنعه المشرك الأول بيديه، ويسجد له من دون الله جل وعلا، كلا! بل لقد تعقد الشرك وكثر، وتعددت صوره ومظاهره في مجال الاعتقاد، وفي مجال النسك، وفي مجال التشريع، ولا يتسع الوقت لهذا التفصيل، ومظانه كتب التوحيد لعلماء السلف.

بل يكفي أن نعلم جميعاً أنه إلى يومنا هذا وإلى ساعتي هذه، يوجد في هذا العالم المتحرر المتحضر المتنور في الهند وحدها أكثر من مائتي مليون بقرة تعبد من دون الله.

بل ولو مشت البقرة في شارع من الشوارع العامة؛ لتوقف وراءها سيل من السيارات، لا تجرؤ سيارة مهما كان قائدها أن تخطو خطوة واحدة إلا إذا تفضلت البقرة بالانصراف عن الطريق العام!! وناهيكم إذا ما دخلت البقرة محلاً من المحلات العامة وتبولت -أعزكم الله- لسعد صاحب المحل سعادة غامرة وقال: لقد حلت علي اليوم بركات الإله!! بل وستعجبون إذا علمتم أن في الهند ذاتها معابد ضخمة تقدم إليها النذور والقرابين، ولكن هل علمتم ما هي الآلهة التي تعبد في هذه المعابد الفخمة الضخمة؟! إنها الفئران!! يا للعار على هذا العقل البشري إذا انفك وتحدى نور الوحي الإلهي.

بل وأقول بملء فمي: يا للعار ويا للشنار على أهل التوحيد وعلى أمة التوحيد، ما الذي قدمناه؟ وما الذي فعلناه؟ وما الذي بذلناه؟ بل أقول بمنتهى الحسرة والمرارة: ما الذي قدمناه للمسلمين الذين غاب عن ظنهم ووعيهم وعقلهم مفهوم التوحيد الشامل، وحقيقة التوحيد الخالص؟ ومن باب أولى: ما الذي قدمناه لغير المسلمين من الكفار والمشركين الذين ينتظرون منا أن نعلمهم وأن نسمعهم كلمة التوحيد، وأن نقيم عليهم الحجة الرسالية في الأرض التي قال الله عنها: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]؟ أيها الأحبة! إن هذا يلقي بأعظم المسئوليات على عواتقنا وعلى كواهلنا نحن الموحدين، ولتعلموا جميعاً يا شباب الصحوة بأن التوقف لإصدار الأحكام على الن