المرحلة الثالثة: وهي الكبيرة والخطيرة، وكانت في عهد عثمان رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري أن حذيفة بن اليمان عاد إلى عثمان رضي الله عنه بعد غزوة أرمينية مع أهل الشام، وبعد غزوة أذربيجان مع أهل العراق، فدخل حذيفة على عثمان فزعاً وهو يقول: يا أمير المؤمنين! أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى! قال عثمان: وما ذاك؟ رأى حذيفة أهل الشام يقرءون القرآن بقراءة أبي بن كعب، ورأى أهل العراق يقرءون القرآن بقراءة عبد الله بن مسعود، فكان أهل الشام يسمعون قراءة من أهل العراق لم يسمعوها من قبل، وكان أهل العراق يسمعون قراءة من أهل الشام لم يسمعوها من قبل، فاختلفوا اختلافاً شديداً حتى كفر بعضهم بعضاً! فجاء حذيفة فزعاً وقال: أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى، مع أن الله عز وجل من رحمته وتيسيره على الخلق قد أنزل القرآن على سبعة أحرف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) , لا حرج أن تقرأ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات:٦] , وفي قراءة:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتثبتوا) , والقراءتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت بعض القبائل لا تستطيع أن تنطق حروفاً محددة، كانوا ينطقون مثلاً حرف الحاء عيناً، فيقولون في (حتى حين): عتى عين، فنزل القرآن ميسراً على سبعة أحرف قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع أهل الشام قراءة ما سمعوها من أبي وسمع أهل العراق قراءة ما سمعوها من ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً؛ اختلفوا، فأرسل عثمان بن عفان رضوان الله عليه إلى حفصة أم المؤمنين: أن أرسلي إلينا بالصحف -أي: التي جمعت في عهد الصديق رضي الله عنه- لننسخها في نسخة واحدة، فأرسلت حفصة الصحف إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى كاتب النبي زيد بن ثابت رضي الله عنه وإلى مجموعة من أصحاب رسول الله، وأمرهم أن ينسخوا الصحف في مصحف واحد، ونسخوا مجموعة كثيرة من هذا المصحف الواحد.
وأرسل عثمان إلى كل مصر -أي: إلى كل بلد من البلدان- بمصحف واحد إمام، وأمر ببقية الصحف غير هذا المصحف الإمام أن تحرق، وبذلك جمع عثمان رضوان الله عليه الأمة كلها على مصحف واحد قرأ به كله نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المصحف الذي تجدونه بين أيديكم الآن وهو يسمى: بالمصحف الإمام، أي: المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه من الصحف كلها، فلقد قال للصحابة: إن اختلفتم مع زيد فاكتبوا بلسان قريش فإنه قد نزل بلسانهم، أي: بالقراءة التي حفظها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قريش.
وبهذا -أيها الأفاضل- حفظ الله القرآن الكريم فلم تتغير منه آية ولم تبدل منه كلمة ولم يحذف منه حرف، فما تولى الله حفظه لا يضيعه أحد:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:٩].