[مشقة الحساب يوم القيامة]
اعلم بأن النفس جموح، وأن النفس أمارة، وأنه لن يخف الحساب يوم القيامة إلا على من حاسب نفسه في الدنيا.
قال عمر بن الخطاب: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا].
أيها الحبيب: هل دعيت يوماً لحضور محاكمة في قاعة محكمة من محاكم الدنيا؟ انتقل معي على جناح السرعة إلى قاعة محكمة وتصور أنك جالس في هذه القاعة، وهاهو القاضي يدخل إلى قاعة المحكمة، وبين يديه الحاجب ليصرخ في الحضور: محكمة انظر إلى وجوه الناس وتفرس، انظر إلى الصدور ربما تعلو وتهبط وهي تنتظر أن تسمع الحكم من القضاء؛ بل ربما ترى العيون وقد انهمرت منها الدموع مدراراً على الوجوه، والآذان صاغية، والأبصار مشدودة، والكل منتظر، المتهم في قفص الاتهام وأهله ينتظرون، يا ترى بأي حكم سينطق القاضي في هذه اللحظات؟! تصور هذه اللحظات لتقف على حجم الهول الذي يعيش فيه الناس، ولله المثل الأعلى، فأرجو أن تنتقل من هذه الجلسة إلى لحظات يقف فيها العبد على بساط العدل بين يدي الله جل وعلا، وقد دنت الشمس من الرءوس مقدار ميل وغرق الناس في عرقهم كل على قدر عمله، وأتي بجهنم ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت، فتجثوا كل الأمم على الركب من هول الموقف.
تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مشتوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار مسكنهم والمؤمنون بدار الخلد سكانا
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصائحف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الوليد بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
وصدق ربي حيث يقول: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:١٠٥ - ١١١].
((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)) [طه:١١١] تذكر هذه اللحظات لتقف على مشقة الحساب بين يدي رب الأرض والسماوات، ففي الصحيح من حديث عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب، قالت عائشة: يا رسول الله! أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:٧ - ٨]؟! قال: ليس ذلك الحساب يا عائشة! إنما ذلك العرض، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب).
والعرض: هو أن يعرض الله على العبد أعماله، كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه) أي: يقول الرب سبحانه: عبدي لقد عملت كذا وكذا أي: من الذنوب والمعاصي، يوم كذا وكذا، وعملت كذا وكذا يوم كذا وكذا (فيقول المؤمن: رب أعرف، فيقول الله عز وجل: ولكن سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).
انظروا إلى فضل الله عز وجل، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب، فإن الهول شديد، وإن الكرب والله عظيم، ولن تخف مشقة الحساب على العبد يوم القيامة إلا إن حاسب نفسه، وشق على نفسه في الحساب في الدنيا، قال عمر: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا يخفى منكم خافية فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا].