أيها الأحبة الكرام! أيها الإخوة الكرام! كم من أحبابنا وإخواننا اليوم يتمرغ في نعم الله، ويعيش في نعيم الله وهو مع ذلك مصر على معصية الله، لماذا؟ يقول: أنا لازلت شاباً! إن شاء الله تعالى إن كبر سني سأتوب إلى الله، ولن أترك المساجد أبداً! فنقول: إن الموت لا يترك صغيراً ولا كبيراً، والله لا يضمن أحد أن يعيش إلى الغد، قال عبد الله بن عمر:(إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
إن الموت هو الحق أيها الأحبة! ذكر نفسك بهذه الحقيقة التي سماها الله في القرآن بالحق، قال سبحانه:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}[ق:١٩]، والحق أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:١٩]، أي: ذلك ما كنت منه تهرب.
تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفاً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفاً من الموت، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! يا أيها الحاكم! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير! يا أيها الفقير! كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مدخور سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى، من على فالله أعلى.
انظر إليه: هو من هو؟! هو صاحب الجاه والسلطان، والأموال، والوزارة، والملك، نام على فراش الموت! الأطباء من حول رأسه، كل يبذل له الرقية، كل يبذل له العلاج، ولكنهم يريدون شيئاً، وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر، {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء:٧٨]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:٢٦ - ٢٧].
انظر إليه لقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا تريد أن تتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بلا إله إلا الله، فينظر في لحظة صحوه بين السكرات والكربات، ينظر إلى أهله، وإلى الأطباء من فوق رأسه، وإلى إخوانه، وإلى أحبابه، ويقول بلسان الحال، بل وبلسان المقال: يا أحبابي! يا إخواني! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعماركم، أنا صاحب الجاه، أنا صاحب السلطان، أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عمرت لكم الدور، أنا الذي نميت التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق:{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:٨٣ - ٩٦].
سبحانك يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة! سبحانك يا من نقلت بالموت الأكاسرة والأكابرة والأباطرة من القصور إلى القبور! ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود! ومن ملاعبة النساء والجواري والغلمان إلى مقاساة الهوان والديدان! ومن التنعم بألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب!