أليست لنا في القرآن عظة وعبرة؟ ألم يحكِ القرآن قصة امرأة شريفة عزيزة وجيهةٍ غنية جميلة مع يوسف عليه السلام؟ انتبهوا -يا عباد الله- ألم يقص القرآن علينا قصة امرأة عزيز مصر مع خادمٍ لها في البيت؟ هي من هي؟ هي في غاية الشرف والجمال والمال والجاه والسلطان، وهو من هو؟ هو عبدٌ لها وخادمٌ عندها في بيتها، ليس خادماً فحسب بل هو عبدٌ لها في بيتها يعيش معها في بيتٍ واحد، وتحت سقف واحد، ما الذي جرى؟ هكذا بإيجازٍ شديد وبدون مقدمات كما قال الله سبحانه:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}[يوسف:٢٣] هكذا بوضوح وبصراحة وبمنتهى المراودة المكشوفة الجاهرة: {هَيْتَ لَكَ}[يوسف:٢٣] نعم، تقول لمن؟ لشابٍ في كامل فتوته وقوته وجماله وشبابه معها تحت سقف واحد، بل وأُغلق عليهما بابٌ واحد، ولكن يوسف كان قلبه موصولاً بالله جل وعلا:{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[يوسف:٢٣] أنى للقلوب الموصولة بالله أن يؤثر عليها الشيطان، ألم يقل:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص:٨٢ - ٨٣]؟ ولقد حكم الله ليوسف أنه من عباده المخلصين:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:٢٤] الذين لا تأثير ولا سلطان للشيطان عليهم، ولكن المرأة العنيدة التي ضعفت أمام شهوتها وأمام غريزتها لعبدٍ من عبيدها ولخادمٍ من خدامها تنتصر لكبريائها الذي وضعه يوسف في الوحل والطين والتراب، وينتشر الخبر ويسري كسريان النار في الهشيم:{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}[يوسف:٣٠ - ٣١] وكأن هذا الإعلان السافر من هؤلاء النسوة قد دفع المرأة دفعاً لأن تعترف اعترافاً صريحاً وأن تنتصر لكبريائها وشهوتها انتصاراً متبجحاً قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}[يوسف:٣٢] وهنا لم يغتر يوسف بعصمته، وإنما اعترف بعجز وضعف بشريته ولجأ إلى الله الحفيظ العليم جل وعلا:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}[يوسف:٣٣] لم تعد الدعوة من امرأة العزيز وحدها بل أصبحت الدعوة منهن جميعاً: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ}[يوسف:٣٣] لم يقل: كيدها بل (كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:٣٣] فماذا كانت النتيجة؟: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[يوسف:٣٤].
الذي يسمع ويرى ويعلم القلوب التقية النقية من القلوب الكاذبة المنافقة إنه هو السميع العليم سبحانه وتعالى.
هذا نموذجٌ وعظة من كتاب الله الذي نقرءوه في الليل والنهار، ولكن أصبح القرآن كتاب ثقافة للتسلية وللمتعة، يجلس الرجل ليقرأ القرآن ولا هم للناس إلا أن يقولوا: هذا صوته جميل، وذاك صوته حسن، وهذا صوته غير طيب، ويؤمر وينهى ولا سمع ولا طاعة للأمر، ولا اجتناب للنهي؛ لأن القرآن حول إلى علب القطيفة وإلى البراويز الذهبية والفضية، وحول إلى حلي تحلي به النساء صدورهن، يقرأ على الأموات في القبور، والله جل وعلا يقول:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}[يس:٧٠] وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}[الفرقان:٣٠].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.