للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحث على اغتنام رمضان فيما يقرب من الله]

الله الله -أيها الأحباب- في هذه الجائزة، وفي هذه المنحة، وفي هذه الصفقة! فوالله الذي لا إله غيره لو قيل لك يا عبد الله: إن هناك صفقة تجارية تستطيع لو دخلت فيها أن تربح ألف ريال، والله لن تتخلى عنها ولن تتركها، فما قولك بصفقة تعرض عليك فتربح فيها جنة عرضها السماوات والأرض؟ جنة عرضها السماوات والأرض بالصيام والقيام، فيغفر الله لك أيها الصائم القائم (من صام وقام -كما ذكرت آنفاً- غفر له ما تقدم من ذنبه)، صفقة عظيمة يا عباد الله، ورحمة كريمة من الله جل وعلا.

فهيا أيها الحبيب! هيا أيها المسلم! هيا أيها المكرم من الله جل وعلا! أقبل، تعالَ تعالَ إلى الله، عد إلى الله، ارجع إليه، استغفر الله جل وعلا، وامش بين يديه، وقف على بابه ذليلاً خاشعاً طالباً منه العفو والرحمة والغفران، ولا تيئس ولا تقنط مهما ارتكبت من الذنوب والمعاصي، ومهما وقعت في الكبائر، عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن عفو الله أعظم من كبائرك، وأعظم من ذنوبك، وأعظم من معاصيك.

الله جل وعلا -وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض- يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يتنزل الله تنزلاً يليق بكماله وجلاله، فلا تعطلوا صفة النزول، ولا تكيفوها، ولا تؤولوها، إنما نؤمن بصفة النزول كما أخبر بذلك نبينا ورسولنا صلى الله عليه وسلم، ونقول: يتنزل تنزلاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، لا تدركه العقول ولا تكيفه الأفهام، فاقطع الطمع عن إدراك ذات الله جل وعلا، لا نعطل ولا نكيف ولا نؤول ولا نشبه، ولكن نردد مع الإمام الشافعي قوله: نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، ونؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاى والسلام: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول ويقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر).

قم يا عبد الله، قم يا حبيبي في هذا الليل وكن من الساجدين بين يدي الله جل وعلا، كن من الراكعين، كن من القائمين، كن من الذاكرين والمستغفرين في الأسحار.

(من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟) الله جل وعلا يناديك فهل أنت ممن سيقول لربه: هأنذا يا ربي بين يديك أسألك العفو والمغفرة، أسألك أن تغفر لي ما قد سلف من الذنوب والعصيان، وكن على يقين بأن الله جل وعلا سيستجيب منك الدعاء، وكن على يقين بأن الله جل وعلا غفور رحيم، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].

أما علمت أيها الحبيب أنك إذا عدت إلى الله جل وعلا سيفرح الله تبارك وتعالى بتوبتك وأوبتك وعودتك، وهو الغني عنا فلا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية ففي حديث أبي ذر الطويل الذي رواه مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).

وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:١٥ - ١٧]، أنت الفقير إلى الله، والله هو الغني، لو عدت إليه -وهو الغني عنك- لفرح الله بك، ولا تعطل أيضاً صفة الفرح لله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعرف الناس بربه، ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ به يرى راحلته قائمة عنده وعليها طعامه وشرابه -فأراد أن يعبر عن شكره لله جل وعلا- فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)، هذه الفرحة أنست الرجل نفسه؛ فجعلته يقول هذه المقولة، فالله جل وعلا يفرح بك إذا تبت إليه وعدت إليه أشد من فرح هذا العبد بعودة أسباب الحياة إليه مرة أخرى، إنه فضل الله جل وعلا.

وفي الحديث الذي رواه مسلم وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).

فهيا أيها اللاهي أيها الساهي أيها الغافل عد إلى الله جل وعلا، وذكر نفسك بأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر؛ وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، دنياك مهما طالت لابد وحتماً أن تلقى الله جل وعلا، وذكر نفسك بقول من قال: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل وذكرها بقول القائل: دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب اسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل منا وإياكم الصيام والقيام، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.