[الاعتدال والاقتصاد في الأعمال والطاعات]
ثانياً: من أعظم الأسباب التي تعيننا على المداومة على العمل الصالح: الاقتصاد والاعتدال في الأعمال والطاعات، فلا تشدد على نفسك ولا تسرف فلا إفراط ولا تفريط، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأنا أخاطب الآن الشباب بصفة خاصة لأن الله عز وجل لا يكلفك ما لا تطيق: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧] فلا تغال أيها الحبيب! ولا تشدد على نفسك.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري، قال الحبيب: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
أخي الحبيب! إن عجزت أن تصل إلى ما تريد فقارب -أي: اقترب من هذا الخير الذي تريد أن تداوم عليه- ولا تكلف نفسك بعمل قد تعجز عنه بعد أسبوع أو بعد شهر أو شهرين، فلا تكلف نفسك ما لا تطيق، فالاقتصاد والاعتدال بلا إفراط أو تفريط من هدي سيد الرجال صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين: (أن الحبيب دخل المسجد يوماً فوجد حبلاً ممتداً بين ساريتين في المسجد -أي: بين عمودين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الحبل؟ قالوا: إنه حبل لـ زينب رضوان الله عليها، قال: ولمَ؟ قالوا: إذا فترت -يعني: إذا تكاسلت عن العبادة تعبت- تعلقت به؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلوه).
اسمع لهذه العبارات النبوية الكريمة، من المشرع الأعظم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حيث قال: حلوه، ثم التفت إلى أصحابه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه) أي: على قدر نشاطه وعلى قدر استطاعته (فإذا فتر فليرقد).
انظر إلى التشريع: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) لأنه لابد للنفس من فترات للترويح، وليس ذلك بالمعصية كما يظن كثير من الناس فيقول: ساعة وساعة.
أي: ساعة لقلبك وساعة لربك، وإذا قلت له: ماذا تقصد أيها الكريم بساعة لقلبك؟ يقول: ألهو وأسمر وأقضي الوقت أمام المسلسلات المسلية وإن كانت في المعاصي!! لا يا أخي! لا أيها الحبيب! وإنما ساعة وساعة تفهم من حديث حنظلة: (لما قابل الصديق رضي الله عنه، وقال له: نافق حنظلة، قال: ومم ذاك؟ قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار حتى كأنها رأي عين، فإذا عدنا إلى الأولاد أو إلى البيوت عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال أبو بكر: والله إني لأجد ما تجد، فانطلقا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله! قال: مم ذاك؟ فأخبره بما قال لـ أبي بكر رضي الله عنه، فقال المصطفى: يا حنظلة! والذي نفسي بيده لو تدومون على الحالة التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات، ولكن ساعة وساعة!) أي: ساعة تبكي فيها العيون، وتخضل فيها اللحى، وساعة عودوا فيها إلى الأزواج فداعبوا الزوجات وداعبوا الأولاد والبنين والبنات، واهتموا بالضيعات -أي: بالتجارة والأعمال- ولا مانع من ذلك على الإطلاق.
هذا هو معنى الحديث: (ساعة وساعة) أي: ساعة للرب جل وعلا للآخرة، وساعة للدنيا، أما أن يقال: ساعة لقلبك وساعة لربك، وأن تقضي ساعة القلب في معصية الله فهذا لا يرضي الله جل وعلا.
أيها الأحبة! الاقتصاد والاعتدال والترويح عن النفس من أعظم الأسباب التي تعين الإنسان على أن يستمر وأن يداوم على العمل الصالح، وأنتم تعلمون قصة الثلاثة الذين جاءوا لبيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أنس، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها، وقالوا: (وأين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد أبداً، وقال الآخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ قالوا: بلى، قال: أما إني لأخشاكم وأتقاكم لله عز وجل، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، إنه التوازن بين أمر الدين والدنيا، ولذلك يجمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج العظيم العجيب في هذا الدعاء الذي رواه مسلم في دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري) تدبر في هذا المنهج المتوازن المعتدل، يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).
أيها الأحبة! إن المتشدد الغالي المفرط لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فهذه عائشة رضي الله عنها تقول: (كان أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، تقول: ولو نزل أولاً لا تشربوا الخمر ولا تزنوا، لقال الناس: لن ندع الخمر ولن ندع الزنا أبداً).
لكنه التدرج، وهذا ما فهمه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يوم أن ذهب إليه ولده وقال له: يا أبتِ! ما لي أراك لا تحمل الناس على الحق جملة واحدة -حماس الشباب مع صدق وإخلاص- فوالله لا أبالي إن غلت بي وبك القدور في سبيل الله.
أي: لا أبالي بأن أبتلى أنا وأنت في سبيل الله جل وعلا، فقال الوالد الفقيه عمر بن عبد العزيز: (يا بني! إن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، يا بني إني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة واحدة فيدعوا الحق جملة واحدة فتكون فتنة).
أيها الحبيب! إن التدرج في الأعمال من أعظم الأسباب التي تعينك على المداومة على العمل الصالح.