للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف العزة من أمة الجسد الواحد]

موقف من مواقف الأمة ذات الجسد الواحد، وانظر إلى هذا الموقف الذي يتألق عزة، واسمحوا لي أن أكرره، فإن المسلم الآن يتطلع إلى موقف من عزة ولو في الماضي؛ ليضمد به الجراح، إنه موقف ربعي، ذكرت الموقف كثيراً لكننا في أَمَسِّ الحاجة إلى ذكره الآن؛ لنقف على أمة الجسد الواحد، وبما كانت تمتلكه من عزة ومكانة وكرامة.

ربعي بن عامر جندي متواضع في الجيش المسلم، يرسل به قائد القادسية سعد بن أبي وقاص إلى قائد الجيوش الكسروية الجرارة رستم، ويدخل ربعي بثيابه المتواضعة، ويقف بين يدي رستم دون وقوف مع جزئيات الموقف والحدث، ليقول له رستم: من أنتم؟ فيقول ربعي الذي عرف الغاية، وفهم الوظيفة التي من أجلها ابتعث: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.

قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات منا، والنصر لمن بقي من إخواننا.

قال رستم: سمعت مقالتك، فهل لكم أن تؤجلونا لننظر في أمرنا، ولتنظروا في أمركم؟ قال ربعي: لقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم ألاَّ نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال فانظر في أمرك وأمرهم، واختر لنفسك ولهم واحدة من ثلاث.

يا لها من عزة وكرامة!.

قال رستم: ما هي؟ قال ربعي: الأولى: الإسلام ونرجع عنك -هذه هي الغاية أن تسلموا لله جل وعلا.

قال رستم: وما الثانية؟ قال: الجزية، وإن احتجت إلى نصرتنا نصرناك.

الجزية التي ما زالت الأمة تدفع فاتورتها الآن كاملة غير منقوصة، ومن أغرب ما قرأت في اليومين الماضيين أن تقريراً أمنيّاً وضعه التقرير الأمريكي عرض على (بوش)، هذا التقرير الأمني يطالب العرب والمسلمين بتسديد نفقات الحرب الأمريكية على أفغانستان، هل تعلمون تكلفة اليوم الواحد؟ تتكلف أمريكا في حربها في أفغانستان في اليوم الواحد ما يزيد على مائة مليون دولار، وليدفع العرب وليحيا العرب، وليبارك الله في بترول العرب، وفي أموال العرب، فليدفع العرب أذلاء، ينفق في اليوم مائة مليون دولار، فالصاروخ تزيد قيمته على مليوني دولار، والقنبلة الانشطارية التي تسقط الآن على أرض أفغانستان تزيد تكلفتها على نصف مليون دولار، ويطالب التقرير الأمني (بوش) أن يكلف العرب بتسديد هذه الفاتورة، بدعوى أنها حرب ضد الإرهاب، والعالم العربي كله بحاجة إلى القضاء على الإرهاب، حسبنا الله ونعم الوكيل!! كل الكلمات ورب الكعبة أراها تنسحب من بين يدي، بأي لغة أعلق؟! وبأي كلام أدلل على مثل هذا الكلام الخطير؟! فالجزية اليوم تدفعها الأمة، وربعي يقول لـ رستم: الجزية، وإن احتجت إلى نصرتنا نصرناك.

قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال، ولن نبدأك بقتال فيما بين اليوم وبين اليوم الثالث إلا إن بدأتنا أنت.

فقال له رستم: عرفتك، أسيدهم أنت؟ أي: هل أنت القائد؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم.

هذه أمة الجسد الواحد التي حققت قول المربي والمعلم صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين من حديث النعمان: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

هذه أمة الجسد الواحد التي حققت قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه).

هذه أمة الجسد الواحد التي استحقت أن تُخَاطَبَ من الله جل وعلا بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠].

استحقت هذه الأمة أن تُخَاطَبَ من الله جل وعلا بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣].

استحقت هذه الأمة أن تُخَاطَبَ من الله بقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٩٢]، ولو كان المراد بالآية هم الأنبياء، فالخطاب لأمة سيد الأنبياء، وإمام الأصفياء محمد صلى الله عليه وسلم.

ظلت هذه الأمة عزيزة تَرْفُلُ في ثوب العز والكرامة حتى جيء بتاج كسرى ليوضع في حجر عمر بن الخطاب وهو في مدينة رسول الله، نعم يؤتى بتاج كسرى ليوضع بين يدي الفاروق! وقيصر تفتَّتَتْ إمبراطوريته، وكسرى يمزق ملكه، وتنتشر وتعلو راية الإسلام على ثلثي الكرة الأرضية في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، ارتفعت راية الإسلام في قلب الصين في قلب فرنسا في إيطاليا في أقصى الحدود المغربية، ارتفعت راية التوحيد في قلب أوروبا على أيدي هؤلاء الأبطال الفاتحين الذين عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، والوظيفة التي من أجلها ابتعثوا.

ثم راحت الأمة تتخلى شيئاً فشيئاً عن ثوب عزها بانحرافها عن أصل عزها، عن قرآن ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، راحت الأمة تبتعد يوماً بعد يوم، حتى وقع ما لم يكن يخطر أَلبَتَّةَ لأحد على بال، حين تركت الأمة شريعة الكبير المُتعَاَلِ، وحكمت الأمة قوانين أخبث الرجال في السياسة في الاقتصاد في الإعلام في التعليم في كل مناحي الحياة.

ابحث عن شريعة الله وشريعة رسول الله في الأمة لقد ضاعت! بل رأينا من أبناء الأمة من يعلنها صريحة بلا خجل أو وجل: إن الشريعة الإسلامية لم تعد صالحة لمدنية القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، بل يجب على الأمة إن أرادت التقدم والانطلاق أن تحاكي الغرب، وأن تُحَكِّمَ قوانينه ولو اصطدمت مع شريعة الله ورسوله! فاستبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً، وظنت الأمة أنها قد ركبت قوارب النجاة فغرقت وأغرقت وهلكت، وضلت وأضلت، وصارت الأمة الآن ذليلة لأذل أهل الأرض؛ لمن كتب الله عليهم الذُّلَّ والذِّلَّةَ من إخوان القردة والخنازير، وللصليبيين الحاقدين، وَلعِبُادِ البقر، حتى للملحدين في روسيا.

وهذا هو عنصرنا الثاني: أمة غثاء: