حملت مريم بعيسى {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ}[مريم:٢٢ - ٢٣]، ففاجأها المخاض الذي يهد الأركان للأنثى، وأنا أرجو أن تتصور أنثى بمفردها تضع لأول مرة ليس معها من الناس أحد، وإلا فكفى أن معها الملك.
{فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}[مريم:٢٢ - ٢٣]، أي: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، فتمسكت بهذا الجذع وهي تتألم، وفي وسط هذه الآلام التي تهد أركان الأنثى هدًّا، من مخاض وميلاد وليس معها أحد من الناس، وهي تتألم وتبكي، وفي وسط هذه الحالة النفسية المتراكبة:{قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}[مريم:٢٣].
لك الله يا مريم! لك الله أيتها العذراء الطاهرة! {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}[مريم:٢٣] وهنا تفاجأ للمرة الثالثة بهذه المفاجئة الندية الرخية الرقيقة الرقراقة، إنها تسمع صوتاً، تسمع الحجة البالغة، تسمع الكلمات النيرة، يا إلهي، ما هذا؟! إنه المولود الذي نزل من أحشائها، إنه المولود يتكلم!! أنطقه الله الملك الذي هو على كل شيء قدير، ينادي على أمه بهذا النداء الحنون العذب الرقيق: يا أماه {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}[مريم:٢٤]، أي: انظري إلى هذه العين التي قدرها الله لك الآن، وانظري إلى هذه النخلة التي كانت شابة قد أنبت الله فيها الثمرة لك، فهزي بهذا الجذع، خذي بالأسباب وافعلي أي شيء:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}[مريم:٢٥ - ٢٦].
يا الله يا الله يا الله! إنها الحجة البالغة، المولود ما زال في لفائفه، قدرة الملك، عظمة الملك، قوة الملك، إرادة الملك جل وعلا!! لقنها الغلام الحجة البالغة فاطمأنت نفسها، واستراح قلبها، وسكن فؤادها، وحملت رضيعها وطفلها في صدرها، بل إن شئت فقل: في حنايا قلبها.